مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

دروس التاريخ والرسائل السياسية

لا أحد يجادل بوجود دولة عربية كان بإمكانها الادعاء حالياً بأنها دولة كبرى بحيث يمكنها أن تلعب دوراً مهماً وعميقاً على الساحة الدولية، إذ يمكن تبرير ذلك بوجود أسباب تاريخية وسياسية مرتطبة بحالة الاستعمار الطويلة للعالم العربي، وعمليات الاستقلال التي لاحقتها، فضلاً عن إشكاليات بناء الدولة والهوية، وإنهاء التبعية التي أخذت الجهد الكبير من زعامات الدول العربية الجديدة مستنزفةً الكثير من طاقاتها لتحقيق كل ذلك.

بالمقابل، لا أحد ينكر قوة العرب الجماعية أو الفردية ( السعودية، مصر، الجزائر.. وغيرها) في التأثير على مسار العلاقات الدولية، وفي إرباك موازين القوى للدول المتصارعة في الساحة الدولية لصالح هذه القوة أو تلك.
وربما أن موقف السعودية في دعم حليفتها القوية الولايات المتحدة الأمريكية في صراعها مع منافسها الاتحاد السوفيتي في ظل الحرب الباردة يشكل مثالاً لدور العرب ودولهم في التأثير على العلاقات الدولية وقواها المتصارعة والمتنافسة. فلولا وضع السعودية بإمكاناتها المالية والمعنوية وعلاقاتها الدولية في الحرب الأفغانية ضد التدخل السوفيتي عام 1979 لما استطاع الأمريكان مواصلة السباق الصعب والمعقد سياسياً وأيديولوجيا وعسكرياً مع السوفيت، ولما تحقق الانتصار، والهيمنة والسيطرة على العالم عبر ما يسمى بـ(الأحادية القطبية)؛ ما يعني أن السعودية كانت (بيضة القبان) الحاسمة في تلك الحرب الطاحنة بين القطبين الدوليين طيلة خمسين عاماً.
اليوم، وكأن التاريخ يعيد نفسه ولكن بالمعكوس، نجد بأن نتائج (القمم الثلاث) التي شهدتها العاصمة السعودية في الفترة ما بين 7 و9 كانون الأول/ ديسمبر 2022 ليست فقط دليلاً واضحاً على (اختراق الصين) لحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية الأكثر قرباً وأهيمة مثل دول الخليج؛ بل تشي أيضاً، وبشكل خاص، بغياب الوعي السياسي الواضح للنخب السياسية والفكرية الأمريكية -إن لم يكن جهلها- في فهم وتحليل علاقات العرب بالعموم والسعودية بالخصوص مع الدول العظمى، ولا سيما في ظل التحولات الكبرى التي عرفها العالم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في نهاية ثمانينات القرن المنصرم.
فقمة الرياض عقدت في ظل علاقات متوترة بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، ما يعني أن السعودية وحلفاءها العرب بقيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد أصبحت لديها قوة التغيير، ورفض الصيغ القديمة التي أملتها اتفاقية (بارجة كوينسي) في بدايات عام 1945 القائمة على (النفط مقابل الأمن)، أو حتى تلك الاتفاقات التي جاءت بعد (الصدمة النفطية) عام 1973 التي ربطت ثمن برميل النفط بالدولار الأمريكي عام 1974.
ولم تكن هذه القمة تقليدية، كما هي حال القمم التي تنظمها عادة الولايات المتحدة الأمريكية مع دول أمريكا الجنوبية، أو تلك التي تسعى إليها فرنسا نحو أفريقيا أو الفرانكوفونية، وإنما مثلت (قمة القمم) كونها تشبه في تداخلها وتعددها (الصندوق الصيني) لأنها حملت في جعبتها ثلاث قمم: قمة صينية سعودية، وأخرى صينية خليجية، فضلاً عن القمة الصينية العربية.
فعبر هذه القمة حاول الرئيس الصيني شي جين بينغ أن يرسل رسالتين للأمريكان: الأولى تتمثل في قدرة الصين على الولوج إلى العالم العربي ومنه الخليج العربي الذي يملك عصب الاقتصاد العالمي من حيث الطاقة، والمال، والطرق العتيقة المؤثرة بالسياسة والاقتصاد العالمي، في حين أن الرسالة الثانية تعطي الدليل الدامغ على انضمام الصين إلى (نادي القوى العظمى) الساعية لفرض إيقاعها السياسي والدبلوماسي والاقتصادي على العالم، بالإعلان بأن صين (الحرب الباردة) لم تعد موجودة، وأن الصين بحلتها الجديدة هي الحاضرة بثقة وبقوة في الساحة الدولية ومنها الساحة العربية.
أما بالنسبة للسعودية التي تقود (القاطرة العربية) أرادت عبر تنظيم هذه القمة الصينية العربية التاريخية أن ترسل عدداً من الرسائل إلى حلفائها الأمريكان، مفادها أن العالم تغير، وأن الدول العربية أيضاً تتغير وتتحول إلى فواعل، ليس فقط طاقوية بل أيضاً (سياسية)، بحضور قيادات شابة طامحة تسعى إلى اقتناص (الفرصة التاريخية) الحالية بركوب موجة تحولات النظام الدولي القادمة والمتجهة -كما يبدو- نحو نظام دولي مرن من تعدد الأقطاب، وبعيداً عن الهيمنة الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد شكلت طريقة استقبال الرئيس الصيني من الجانب السعودي، ومشاركة 30 دولة ومنظمة في هذه القمة العربية الصينية الرسالة الثانية الأكثر تأثيراً للأمريكان. أما الرسالة الثالثة، فكانت في مناقشة موضوعات حساسة ومهمة، كاتفاقية التجارة الحرة المحتملة بين الطرفين، وصفقات النفط باليوان الصيني، وعضوية (بريكس بلس) المحتملة للسعودية، والإمارات، والجزائر، ومصر، ما سيعزز بقوة العلاقات العربية الصينية مستقبلاً.
والشيء الملفت في (إعلان الرياض) الختامي، بروز إشارة قوية واضحة بأن العالم العربي بقيادة السعودية قد حسم موقفه إلى حد كبير من حلفائهم الأمريكان بسعيه في تنويع علاقاته ومصالحه التي لن تكون قائمة على النفط فقط، بل بالتأكيد على قضيتين شائكتين هما: أن (تايوان جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية، ورفض استقلالها بأشكاله كافة)، وأن (القضية الفلسطينية تظل قضية مركزية في الشرق الأوسط، وهي التي تتطلب إيجاد حل عادل ودائم لها على أساس حل الدولتين، من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية).
وهذه تأكيدات تتعاكس جذرياً مع السياسات والرؤى والإستراتيجيات الأمريكية بشكل كامل، ولا سيما إذا ما تذكرنا أن هناك (صفقة قرن) أمريكية مطروحة منذ الإدارة السابقة لدونالد ترامب ذات رؤية أحادية لصالح إسرائيل، فضلاً عن التقاليد الأمريكية في دعم تايوان ضد الصين والتأكيد على ذلك مؤخراً من خلال زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكية نانسي بيلوسي لتايوان في آب/ أغسطس عام 2022.
ومع ذلك، فإن السؤالين الجوهريين اللذين يطرحان بقوة في ظل هذه الرسائل المباشرة والجريئة لحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة السعودية إزاء عدوها الأول (الصين)، كما قررت إستراتيجية الدولة الأمريكية العميقة؛ هما: هل يمكن أن يسهم العالم العربي في تحقيق أهداف الصين الإستراتيجية على حساب حليفهم الأمريكي - كما فعلوا سابقاً في دعم هذا الأخير في حربه ضد الاتحاد السوفيتي- ما يسهم في تأكيد صعود الصين كقوة عالمية وهيمنتها بفضل الدعم العربي بقيادة السعودية؟
وهل يعني انعقاد القمة الأمريكية الأفريقية، بعد قمة الرياض العربية الصينية في الرياض بأسبوع؛ أن الولايات المتحدة الأمريكية قد استلمت الرسالة وبدأت في الحركة وتقديم القرابين والوعود لأفريقيا بمقعد في مجلس الأمن وآخر في مجموعة العشرين، ودعم مالي لمواجهة قمة الرياض الناجحة بالتأكيد عربياً وصينياً.

ذو صلة