مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

موقع العرب في عالم متعدد الأقطاب

منذ نهاية الحرب الباردة عام 1990، والتبشير بالعولمة وتجلياتها وهيمنة القطب الواحد، أخذت علاقات العالم الاقتصادية والتجارية والمالية والسياسية والأمنية تمر بما يشبه مرحلة تحول خصوصاً في العقد الثاني من القرن الحالي. وكان الصعود الاقتصادي والتجاري والاستثماري المذهل للصين، ومحاولة روسيا استعادة مكانتها المفقودة مع انتهاء الحرب الباردة، وتحديات التغير المناخي، وتعثر تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة وكذلك جولة الدوحة لمفاوضات التجارة العالمية، والأزمة المالية العالمية عام 2008، وتبعات تفشي فيروس كورونا-19 على الاقتصاد والتجارة العالميين إيذاناً بذلك التحول.

ولعل توجهات وسياسات الولايات المتحدة والغرب عموماً تجاه كل ذلك أثر على سرعة واتجاه وعلاقات ذلك التحول العالمي، إذ كرد فعل لبروز الصين الاقتصادي، اتخذت الولايات المتحدة -غالباً مدفوعة بحسابات داخلية- سياسات اقتصادية ومالية تقوض من علاقات العولمة التي كانت تبشر بها وتدعمها من خلال مؤسساتها (البنك وصندوق النقد الدوليين ومنظمة التجارة العالمية) طوال العقود الماضية. ومع أن مكتسبات العولمة كانت متفاوتة بين الدول وداخل كل دولة، إلا أنه في ظلها تمكنت الصين من تنفيذ نموذجها التنموي وصعودها، ولكن النكوص عن مكتسبات العولمة من قبل الدول الصناعية جارٍ على قدم وساق، فقد ابتدأت نسبة الصادرات العالمية من السلع والخدمات إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي في الانخفاض من 61 بالمئة عام 2008، إلى 52 بالمئة عام 2020، بينما انخفضت نسبة الاستثمارات المباشرة عبر الحدود إلى الناتج العالمي من 5.3 إلى 1.3 بالمئة في العامين. ومن شأن نكوص الولايات المتحدة والدول المتقدمة عما لا يناسبهم من علاقات العولمة أن يؤثر على النمو الاقتصادي العالمي واستقراره واستدامته، ويجعل الاستجابة لآثار تغير المناخ والتكيف معه أكثر صعوبة، كما وستؤدي الحواجز الحمائية المتزايدة في تلك الدول إلى إعاقة النمو في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا.
وكرد فعل لظروفها السياسية المحلية وإخفاقاتها في مناطق أخرى من العالم (كالعراق وأفغانستان والشرق الأوسط) أخذت الولايات المتحدة بالانسحاب والانكفاء تاركة فراغات أمنية، وحالات عدم استقرار، وقامت بتهميش دور الأمم المتحدة والمنظمات العالمية المتخصصة، التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية وكانت هي الراعية لها، هذا ناهيك عن تقلب سياساتها تجاه اتفاقيات التغير المناخي وبرنامج إيران النووي والعلاقة مع حلفائها في أوروبا وغيرها، إذ يذهب البعض إلى أن الأزمة في أوروبا الناتجة عن الغزو الروسي لأوكرانيا تعود إلى تقلب السياسات الأمريكية وعلاقاتها مع الناتو وأوروبا.
ونظراً لتعاظم الحمائية التجارية والحمائية التقنية واستخدام العقوبات المرتبطة بهما بأنواعها، واستمرار بؤر التوتر السياسي والأمني والهجرات عبر الحدود، وانتشار الفكر والسياسات القومية الشوفينية الضيقة في الدول المتقدمة، فقد اتسعت الفجوة بين العولمة بمفهومها الاقتصادي ومفهومها السياسي. وقد يغير ذلك في الوزن النسبي للدول والتجمعات، وفي نوعية ومجال التكتلات الاقتصادية والتحالفات الجيوسياسية. ولا يبدو العالم متجهاً إلى تحول سلس وسلمي تأخذ مؤسساته وأطره بالاعتبار ذلك التغير النسبي وتوافق وتقاطع المصالح، بل إلى حالة من الجمود واللا يقين والتموضع، مما سيؤثر بشكل أو بآخر على الخيارات السياسية للدول وعلى إمكانات نموها وعوامل استقرارها.
دور الصين في التحول الاقتصادي العالمي  
أدى التحول الاقتصادي في الصين منذ نهاية عقد السبعينات من القرن العشرين إلى تبوئها مكانة منافسة للولايات المتحدة، القوة الأكبر اقتصادياً وتقنياً وعسكرياً وسياسياً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبالأخص بعد انتهاء الحرب الباردة. ومع أنه خلال فترة القطبين في الحرب الباردة -الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي- والقطب الأوحد -الولايات المتحدة- بعدها، برزت قوى اقتصادية يعتد بها  كألمانيا واليابان والنمور الآسيوية والاتحاد الأوروبي، إلا أنها لم تكن بقوة وحجم تأثير بروز الصين في العلاقات الاقتصادية الدولية. ويعود ذلك إلى أن حجم الاقتصاد أو الصادرات أو التقانة أو قوة العملة لتلك الدول والمجموعات لم يترجم بالضرورة إلى قوة عسكرية وسياسية وقوة ناعمة وتأثير في آليات القرار السياسي والاقتصادي والمالي والتجاري الدولي (في الأمم المتحدة ووكالاتها والصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة وغيرها) كحال الولايات المتحدة في مرحلة القطبين أو القطب الأوحد. أما في حالة الصين فقد برزت ليس كقوة اقتصادية وتجارية فحسب، بل كقوة ذات برنامج ووجود ورغبة في تعديل آليات القرار ومجال التحالفات في النظام العالمي بتفرعاته.
كان ما يعرف الآن بالدول المتقدمة يمثل 80 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و60 % من التجارة العالمية عام 1950، وبحلول عام 2019، كانت هذه الحصص 39 % و48 % على التوالي. وانخفض رصيد رأس المال من 87 % إلى 39 % -والسكان- من 47 % إلى 12 % في العامين، ومع ذلك لا تزال حصة تلك الدول في آليات قرارات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أكثر من 70 %. وفي الوقت الذي ارتفعت فيه حصص الصين والأسواق الناشئة والاقتصادات النامية في الناتج العالمي والتجارة ورأس المال والسكان على مدى العقود السبعة الماضية، لا سيما في العقود الثلاثة الماضية، لا تزال حصصها في آليات القرار الاقتصادي العالمي لا تتناسب مع وزنها التجاري والاقتصادي والمالي.
كان الاتحاد السوفيتي يطمح في منتصف القرن الماضي إلى تجاوز حجم اقتصاد الولايات المتحدة، وتوقع البعض أن تقوم اليابان بذلك خلال عقد الثمانينات أو الاتحاد الأوروبي بداية القرن الحالي، إلى أن قامت الصين بذلك بدءاً من عام 2015. ففي عام 1980، لم يتجاوز حجم الاقتصاد الصيني 2.2 % من الاقتصاد العالمي وكان الاقتصاد الأمريكي أكثر من تسعة أضعاف حجم الاقتصاد الصيني وتقلص في عام 2000، إلى 2.8 أضعاف، وفي عام 2020، أصبح الاقتصاد الصيني أكبر بنحو 16 % من حجم الاقتصاد الأمريكي وحصته 18.2 % من الاقتصاد العالمي حسب مقياس تعادل القوة الشرائية بين البلدين الذي يأخذ بالاعتبار مستويات المعيشة وليس سعر الصرف بينهما فحسب. وخلال تلك الفترة كان الاقتصاد الصيني ينمو بمعدل 9.2 % سنوياً (مقارنة بـ2.6 % في الولايات المتحدة، 2.3 % في الدول الصناعية و3 % في العالم) مما ساهم في إخراج نحو مليار من مواطنيها من خط الفقر، وتوسيع حجم الطبقة الوسطى بأكثر من 300 مليون نسمة.
وبحلول عام 2020، تمتلك الصين 110 شركات ضمن الخمسمئة الأكبر في العالم وفق نشرة Global Fortune 500، وتكتسب تلك الشركات أكثر من 80 بالمئة من عائداتها من الداخل الصيني. وتحتل البنوك والأوراق المالية وأسواق السندات في الصين المرتبة الأولى في العالم من حيث الحجم، وأصبح أربعة من أكبر خمسة بنوك في العالم صينية الأصل. وهي تتناوب المركزين الأول أو الثاني مع الولايات المتحدة من حيث كونها متلقية ومصدراً للاستثمار الأجنبي المباشر (FDI). ولكن يُلاحظ منذ عام 2016، الانخفاض النسبي في مؤشرات انفتاح الصين على العالم في مجالات التجارة والتكنولوجيا ورأس المال بسبب توجه التنمية فيها من التصدير إلى تنمية الاستهلاك المحلي. وفي المقابل ازداد انكشاف اقتصاد العالم أكثر على الصين نتيجة فرط الاعتماد على سلاسل الإمدادات منها (وإن اختلف ذلك الانكشاف بين الدول والقطاعات)، وهو ما كان أكثر تجلياً خلال الإغلاقات المصاحبة لفيروس كورونا- 19.   
وكان أحد الاختبارات الرئيسة لمناعة الاقتصاد الصيني خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، التي انطلقت شرارتها من الولايات المتحدة، أكبر اقتصادات العالم حينها، إذ خلال تلك الأزمة استفادت الولايات المتحدة وأوروبا من محافظة الصين على وتيرة النمو ومن توظيف فوائضها المالية في تلك الاقتصادات واستفادت الدول النامية التي كانت تزود الصين بمنتجات الطاقة والمواد الأولية. ومنذ ذلك العام أصبحت مجموعة العشرين (التي أنشئت عام 1999) والتي تضم الصين أكثر فاعلية. وتبعها قيام مجموعة بريكس BRICS من الحروف الأولى لأعضائها (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) لتعمل المجموعتان على إعادة تشكيل آليات عمل النظام الاقتصادي العالمي. إضافة إلى ذلك بناؤها منظومات تتجاوز ما بعد الحرب العالمية الثانية ومنها إطلاق مبادرة الحزام والطريق  (BRI)عام 2017، وإبرام اتفاقيات التجارة مع العديد من الدول والمجموعات، والانضمام إلى تجمع التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ، وتأسيس بنك آسيا لاستثمار البنية التحتية، مما عزز من دور الصين في محيطها الآسيوي ودورها العالمي. وتشتمل مبادرة الحزام والطريق على الاستثمار في البنية التحتية في ستة ممرات اقتصادية دولية:
1 -بين الصين ومنغوليا وروسيا (CMREC)
2 - الجسر البري الأوروبي الآسيوي (NELB)   الذي يربط المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي
3 -الممر بين الصين وآسيا الوسطى وغرب آسيا بما فيها شبه الجزيرة العربية (CCWAEC)
4 -الممر بين الصين وشبه جزيرة الهند الصينية متصل براً وبحراً (CIPEC)
5 - الممر بين الصين وباكستان (CPEC)
6 - الممر بين بنغلاديش والصين والهند وميانمار (BCIMEC)
وقد ثار جدل حول إمكانية قيام نظام عالمي متعدد الأقطاب أحد أركانه الصين استناداً إلى الصعود المذهل للصين ومبادراتها ومواقفها على الصعيد العالمي، وتوقع البعض أن تحذو الهند حذوها، واتضاح مثالب النظام العالمي القائم على تسيد قطب واحد -الولايات المتحدة- وانحساره اقتصادياً وتضعضع قيادته سياسياً. وربما ساهمت ردود الفعل الأمريكية التجارية والتقنية والمالية والسياسية والأمنية تجاه بروز الصين في ظهور حالات استقطاب وتموضع كل منهما في النظامين الاقتصادي والسياسي الدوليين. ولعل تداعيات الحرب في أوكرانيا ونزوع أمريكا وحلفائها إلى تحجيم روسيا قد ساهم في تغذية الجدل حول بروز نظام متعدد الأقطاب.
خيارات العالم والمنطقة العربية في ظل تعدد الأقطاب
حلل الكثيرون نموذج التنمية الصيني وصعودها المذهل لتصبح مصنع العالم أو قائدة سلاسل الإمدادات العالمية، بل وبشر البعض بأن ينافس (توافق بكين) المستند على نموذج النمو الصيني ما عرف بـ(توافق واشنطن) المستند إلى حزمة السياسات التي يقترحها أو يدفع بها البنك وصندوق النقد الدوليان اللذان تهيمن عليهما الولايات المتحدة. وينطلق ذلك النموذج من محاور عدة أهمها:
- التنمية المبنية على الابتكار الذي يستوجب العناية بالتعليم والبحث والتطوير.
- التصنيع الموجه إلى التصدير.
- العمل بنموذج الملكية العامة و(الاقتصاد المختلط) في التنمية الصناعية.
- تركيز السياسات على أسبقية مبدأ المنافسة قبل شكل الملكية في جميع القطاعات التي تمتلكها الدولة.
- استخدام الملكية العامة واحتكار القلة لإدارة السوق وتوليد الإيرادات للاستثمار وإنشاء المنافع العامة.
- تبني إستراتيجية للنمو يقودها الاستثمار قبل الطلب، لإيجاد طاقة فائضة يمكن استغلالها لاحقاً، حيث كانت الصين تستثمر في منتصف التسعينات نحو 32-33 % من ناتجها المحلي الإجمالي في أصول ثابتة جديدة ارتفعت بحلول عام 2004، إلى أكثر من40 % من ناتجها المحلي الإجمالي.
- قيام القطاع العام بالاستثمار لخلق فرص النمو (وتعظيم الإيرادات) من خارجه لتحقيق فوائد غير مباشرة للقطاع الخاص.
- تحفيز مديري الشركات المملوكة للقطاع العام بربط تعويضاتهم بأداء شركاتهم في تعظيم قيمة الأصول.
ولكن يرى البعض الآخر صعوبة تعميم النموذج الصيني وفق ذلك المنظور نظراً للسمات الفريدة للصين المتمثلة بالسوق الداخلية الكبيرة وذات الإمكانات الواعدة التي تعزز المنافسة وتجذب الاهتمام والاستثمار الأجنبيين، والاقتصاد وفير العمالة الذي يتبع إستراتيجية تنمية اشتراكية كثيفة رأس المال، والنظام السياسي الهرمي الذي يعمل في بيئة اقتصاد السوق. ويرون أن تراجع عدد السكان فيها عام 2022، وتوقع انخفاض عدد السكان في سن العمل بنسبة 9 % بينما تزداد القوة العاملة في الولايات المتحدة نتيجة الهجرة بنسبة 5 % وظروف كل منهما الجيوسياسية التي تميل لصالح الولايات المتحدة، والتضارب في صنع السياسات في الصين والتدابير بحق الشركات المحلية، وتباطؤ معدلات النمو، من العوامل التي قد تبطئ من قدرة الصين على منافستها.
وفيما يتعلق بطموح الصين إلى توسيع الدور العالمي لعملتها الرنمينبي، كعملة تجارية عالمية لتسوية المبادلات، وشراء الأصول، واحتياطي عالمي موثوق للقيمة للبنوك المركزية العالمية، واستخدامها لتلك العملة في مبادرة الحزام والطريق وبنك آسيا للاستثمار في البنية التحتية (AIIB)، يرى البعض أنه من غير المرجح أن تحل محل الدولار كعملة احتياطي في المدى القريب، إذ إن عملة الاحتياطي العالمي الموثوق بها تعتمد على قابليتها للتحويل بحرية، وعلى عمق أسواق رأس المال، ونزاهة الحكومة التي تصدرها، وسيادة القانون، وإن بعضاً من هذه  ليس متوافراً في العملة الصينية، إذ ما زال الدولار يساهم بنحو 59 بالمئة من احتياطات النقد الأجنبي لدى البنوك المركزية ولا تزيد مساهمة الرنمينبي عن 2 بالمئة، ولا تزال معظم المدفوعات العالمية (ومنها مدفوعات مبيعات النفط)، وإصدارات أدوات الدين يتم معظمها بالدولار وبعضها باليورو، ولكن من جهة أخرى فإن التحول من نظام نقدي عالمي يهيمن عليه الدولار إلى نظام متنوع يشكل الرنمينبي أحد أركانه وإن يستغرق وقتاً أطول من التغير في أحجام التجارة والاقتصاد، إلا أنه ممكن. ولعل إضافة الرنمينبي إلى سلة العملات التي تتكون منها عملة صندوق النقد الدولي المعروفة بحقوق السحب الخاصة بوزن 10.9بالمئة (أعلى من الأوزان النسبية للين والجنيه الإسترليني في السلة) هو اعتراف بدوره ووزن دولته في الاقتصاد العالمي.
ويرى البعض أنه على الرغم من تجاوز حجم الاقتصاد الصيني مثيله الأمريكي مقيساً بتعادل القوة الشرائية المشار إليه منذ عام 2015، إلا أنه وفقاً لأسعار الصرف الحالية، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للصين 18 % من العالم، والولايات المتحدة 24 % فإذا أضفنا حلفاء الأخيرة الأوروبيين والآسيويين وغيرهم تصبح حصتهم 59 %. ويرون أنه طالما تحافظ الولايات المتحدة على تحالفها وقواعدها في اليابان، فلن تتمكن الصين من استبعادها من غرب المحيط الهادئ. وأن إمدادات الطاقة الصينية من الشرق الأوسط ستبقى متأثرة بالهيمنة البحرية الأمريكية في الخليج العربي والمحيط الهندي. ولكن هناك من يرى أن ما يقرب من 100 دولة تعد الصين أكبر شريك تجاري لها، في حين أن 57 دولة فقط لديها مثل هذه العلاقة مع الولايات المتحدة، وأنه في حين خفضت الولايات المتحدة مساعداتها إلى الدول النامية، أقرضت الصين تريليون دولار لمشاريع البنية التحتية لتلك الدول من خلال مبادرة الحزام والطريق على مدى العقد الماضي. لذلك فإن نجاح الصين الاقتصادي يعزز قوتها الناعمة في الأسواق النامية والناشئة الأخرى.
جدير بالذكر أن ثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة قد حولتها إلى مُصدر صافٍ للنفط والغاز، في حين أصبحت الصين أكثر اعتماداً على الواردات منهما من الشرق الأوسط، ولكن تعد الصين اعتمادها على القوة العسكرية للولايات المتحدة لضمان النقل البحري وإمدادات الطاقة والوصول إلى الأسواق الخارجية نقطة ضعف إستراتيجية عميقة، لذلك قامت بتوسيع وجودها الأمني في المنطقة من خلال مجموعة من عمليات الانتشار العسكرية والاستثمارات في البنية التحتية الحيوية -وخصوصاً الموانئ- ومبيعات الأسلحة، إذ يقدر أن نحو 90 ميناء خارج الصين تمتلكه جزئياً أو كلياً شركات صينية، وأن صناعة الدفاع الصينية في تطور ومبيعاتها من الأسلحة في ازدياد مضطرد. وخلال العقد الماضي ابتدأت الصين وبشكل فاعل في تبني أسس الاقتصاد الأخضر وتطوير صناعة واستخدام الطاقات المتجددة والسيارات الكهربائية وبطارياتها مما جعلها تتبوأ مركز الصدارة عالمياً فيها جميعاً.
وبغض النظر عن الخلاف حول حتمية وأشكال انحسار الدور الأمريكي وبروز الصين، ونمط المواجهة بينهما في التجارة والتقنية والتحالفات، إلا أن الثابت أن خيارات العالم ودوله وتجمعاته في ظل تراجع الدور والثقل السياسي والاقتصادي الأمريكي تختلف عما كانت عليه بعد نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، فالتنافس بين قوتين ونظامين يعطي للدول الأخرى خارجهما مساحة أوسع للتحرك واتخاذ المواقف بما تمليه مصالحها وتطلعات شعوبها. وتعد المنطقة العربية وخصوصاً الخليج منها ميداناً رحباً للتحليل وتقييم الخيارات والتحالفات، فالثابت أن الولايات المتحدة لم تعد الشريك التجاري الرئيس لدول المنطقة سواء في جانب الواردات السلعية أو الصادرات النفطية (الأشكال 1و2) والثابت أيضاً أن الولايات المتحدة ربما بسبب انخفاض اعتمادها على نفط المنطقة أو بسبب إخفاقاتها السياسية في المنطقة، ارتأت الانسحاب منها والتركيز على المجال الآسيوي، بل واستخدام المنطقة العربية ما أمكن لها ذلك في إستراتيجيتها عزل الصين.
في المقابل عمقت الصين علاقاتها التجارية والاستثمارية مع الشرق الأوسط، مما يدل على الأهمية الإستراتيجية للمنطقة بالنسبة لها. ففي ظل مبادرة الحزام والطريق: ارتفع إقراض الصين لدول المنطقة من 300 مليون دولار في عام 2014، إلى أكثر من 10 مليارات دولار في عام 2019، واستثمرت الشركات الصينية المملوكة للدولة 21.6 مليار دولار وبلغت قيمة عقود الإنشاءات الممنوحة للشركات الصينية في المنطقة 92.4 مليار دولار خلال الفترة. ومنذ عام 2005، تجاوزت قيمة تلك العقود الإنشائية 180 مليار دولار منها 36.8 مليار دولار في السعودية، 29.1 مليار دولار في الإمارات، 18.8 مليار دولار في مصر، 18.1 مليار دولار في العراق. وعقدت شركة Huawei المقاطعة أمريكياً، شراكة رسمية مع شركات في دولة الإمارات والسعودية وقطر لتوفير البنية التحتية للجيل الخامس من الاتصالات. ويتم تدريس اللغة العربية في أكثر من 42 جامعة صينية، ويدرس نحو 50 ألف صيني اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وفتح معهد كونفوشيوس الصيني فروعاً له في مصر والسعودية والإمارات والأردن.
ونظراً لتوسع الدور التجاري والاستثماري والتقني الصيني في المنطقة، ولأن الولايات المتحدة وحلفاءها في أوروبا وآسيا (اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وغيرها) لا يزالون شركاء مهمين في تلك المجالات، ولأن الدولار لا يزال في المدى المنظور عملة الاحتياطي والمبادلات بما فيها النفط وربط عملات دول المنطقة، انتهجت دول المنطقة مبدأ الحياد فيما يتعلق بالنزاع الأمريكي- الصيني؛ لذلك جاءت القمم السعودية والخليجية والعربية مع كل من رؤساء الولايات المتحدة والصين أواخر عام 2022، لتؤكد ذلك المبدأ. وعلى الرغم من محاولات تسييس ذلك الحياد من بعض الدوائر الغربية، إلا أنه نجح في إخراج المنطقة من تبعات نزاعات هي في غنى عنها لتركز على تعظيم مصالحها مع كلا القطبين، بل إن عقد تلك القمم بحد ذاته سيعمل على زيادة وتعميق الروابط الاقتصادية الخليجية والعربية للتفاوض ككتلة مع قطبين عالميين مهمين.


 

*رئيس جمعية اقتصاديات الطاقة

ذو صلة