أدب الحرب من وجهة نظري أدب إنساني، كأنه رسول السلام. يدعو إلى السلم دوماً ويجنح للتي هي أحسن في رد الفعل، ويخلِّد الذكريات التي مرّت ولم تمر مرور الكرام لأنها مريرة وعالقة في أذهان ضحاياها، وأقول ضحايا لأنهم فقدوا موتاهم على أرض الواقع لكنّهم لم يفقدوهم من صفحات الكتب، لأنهم خُلدوا كذكرى أبدية.
كثيرون وثقوا أعمالهم في أدب الحرب من أدباء وكتاب، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، همنغواي وجورج أورويل.
جلال عامر واحد من كتّاب مصر ومعروف على مستوى العالم العربي، ويعد كاتباً ساخراً، شارك في ثلاث حروب مصرية وكان أحد ضباط حرب أكتوبر، تلك الذكرى التي تتكرر كل عام على أرض الكنانة، وأنا كنت شاهداً على تلك الاحتفالات عندما كنت في قلب مصر أسير في قاهرة المدن. القاهرة، وجدت مظاهر الاحتفال حاضرة وهي حاضرة منذ عام 1973 للميلاد، عندما استردت مصر السيادة الكاملة على قناة السويس وجميع الأراضي في شبه جزيرة سيناء من العدو الغاشم والظالم إسرائيل.
مَن يحب الحياة هو عدو الحرب، لأنه يدافع عن الحياة، ولا يريد أن يرى اللون الأحمر يسيطر ويسيل على بقاع كثيرة ومشاهد لا تسر الناظرين وصراخ وعويل من ألم فقد وأخرى استنجاد والأسباب تتعدد.
القلم الذي يحمله الكاتب، سلاح خطير في نظر البعض وأنا منهم، أرى القلم سلاحاً خطيراً وتتعدد استخداماته لأنه من الممكن أن يكون قوة ناعمة أيضاً، ما أجمل لو استخدم هذا السلاح في نصرة المظلومين والمنكوبين في هذا العالم، من خلال إيصال صوتهم ورسالتهم لمن يهمه الأمر ولمن لا يهمه. المهم تصل الرسالة ويصل صدى الصوت.
منذ مدة طويلة تجول وتصول في ذهني فكرة توثيق يوميات حرب لم تبق ولم تذر، عدد الموتى والجرحى أكثر بكثير من المُعلن عبر شاشات الأخبار، إسرائيل استهدفت حتى المستشفيات ودور العبادة في غزة ومناطق أخرى في فلسطين المحتلة، وللآسف مازالت مستمرة حتى هذه اللحظة، وأقولها بكل أسف وأمني النفس بأن عسى أن تنتهي في القريب العاجل.
فكرة التوثيق لا تقتصر على الكتابة فحسب بل تجميع كل المشاهدات في كتاب حتى يتسنى للقارئ أن يتناولها دفعة واحدة وأن تكون كمرجع وشاهد على يوميات لن تُنسى على الإطلاق حتى وإن لم تُكتب تلك السطور، وهنا أود أن أشارككم بعضاً من تلك المشاهد التي كتبتها:
1
الكهرباء من أعصاب الحياة
قبل أن ينفد الوقود أطلق المستشفى نداء استغاثة لكل من يهمه بأن الوقود على وشك النفاد.. ولا كهرباء بلا وقود.
عفواً هل قلت نداء؟ ليس نداء واحداً بل نداءات
عمليات جراحية، وماذا يعني عمليات جراحية؟
يعني أن تكون في دائرة مُعقمة تماماً وإضاءة كافية وتركيز كاف.
هذه العمليات تُجرى على أضواء الهواتف النقالة، تنتقل الهواتف وكذلك العمليات الجراحية. الانتقال يأتي حسب الظروف، والظروف لا تسر أبداً.
النداءات تستمر.. لا يتوافر الوقود ولا النقود!
لا الوقود حتى تستمر الحياة على نحو طبيعي تحت سقف المستشفى، ولا النقود حتى يشترون الوقود الذي لا غنى عنه كل يوم في تقديم الخدمة العلاجية على أكمل وجه.
هذا الحال.. في مستشفيات وليس مستشفى، البداية كانت في مستشفى ثم تلاه بقية المستشفيات.
الصور تؤلم القلب!
من يقومون بعمليات القلب تحت ضوء الهاتف.
طفل يصرخ في وجه الطبيب من جرحه.
الفوضى بكل وجوهها تحيط بمكان العملية الجراحية.
لم تقف العمليات الطبية على الكهرباء فقط، لا بل حتى بلا تخدير!
2
تحول المكان إلى مأوى لمن لا مأوى لهم.
وجدوا محطتهم الأخيرة (المستشفى).
بعد رحلة مريرة غير مستقرة بها تنقلات هنا وهناك.
في أماكن بها سقف وأخرى سقفها السماء.
بعد أيام من حرب لا تُبقي ولا تذر.
أعلنت الحرب على المستشفيات.
إنها عقيدة التهجير.
أن لا تُبقي مكاناً آمن حتى وإن كان مستشفى.
الحجة كانت واهية.
هي أن الإرهابيين يتواجدون في الداخل وكذلك مخازن للأسلحة.
أيضاً سيل الأعذار لم يتوقف عند هذا الحد.. كانوا يريدون أن يقنعوا المجتمع الدولي وفشلوا.
لا يُصدق عندما أعلنوا النية بالقصف.
صُدِّق عندما قصفوا!
الطاقة الاستيعابية للمستشفى فاقت قدرتها.
حالها كحال بقية المستشفيات.
في الممرات يفترشون وعند الأبواب ينامون.
لم يعد المستشفى.. مستشفى فقط.
أضيف إليه مسكن.. لأنه كان الملاذ الأخير لكل الأبرياء الذين اتجهوا صوبه.
كل مكان كان مشغولاً.. في محيط المستشفى نُصبت الخيام.. حتى الأسطح!
3
خبر عاجل عُرض على شاشة التلفاز باللون الأحمر مفاده طفل يفقد حياته كل عشر دقائق!
كل عشر دقائق أسرة تفقد طفلاً لها.. إن لم يكن أطفال.. إن لم تكن الأسرة كلها، ترحل عن وجه الدنيا إلى وجه الآخرة.
في حرب ظالمة
أكلت الأخضر واليابس.
دمرت الحجر.
قتلت وجرحت البشر..
لا تربطها أي علاقة بالرحمة، وبأي ذنب يُقتل الطفل؟!
مشاهد تؤلم القلب الحي الذي ينبض بالإنسانية، وأعني هنا مشاهد الأطفال وهم ينزفون جرحاً ويصرخون ألماً وأطفال توقف نبضهم ولفظوا آخر أنفاسهم.
المشاهد تختلف لكنها تتفق على أن صورتها واحدة.
طفل يصرخ ولا يعرف ماذا أصابه ولماذا اختلف مكانه فجأة وجد نفسه على سرير أبيض ملطخ باللون الأحمر!
طفلة فقدت يدها وآخر فقد النظر وطفلة برزت عظامها من شدة الجوع وطفل يجمع بقايا بطاطا فاسدة لإطعام عائلته.
.. ولا تتوقف المشاهد عند هذا الحد!
في الإعلام: نحن لا نستهدف الأطفال.
في الواقع: نسبة القتلى من الأطفال هي الأعلى.
.. ولك الحكم عزيزي القارئ.