مجلة شهرية - العدد (587)  | أغسطس 2025 م- صفر 1447 هـ

صحراء الأدباء

المازني، الأديب المصري، أُعطي قلماً حبره من ذهب، وكلماته عطب، فإذا سلّ سيفه على أحد، أصابه في مقتل!
وصف الصحراء الغربية في رحلته إلى مرسى مطروح وصفاً يجعلك تشتاق لتلك الفيافي، ووصف صحراء الحجاز بأسلوب يضحكك حتى تدمع، حين روى كيف غاصت بهم السيارة في الرمال بين بحرة ومكة. يأخذك في مقدمات ذهبية، تشبه الكثبان الرملية التي تشع بريقاً مع شروق الشمس، وتنسج من رمالها (عروقاً) من الذهب.
لكن سرعان ما تنقلب الصورة، وتتمنى لو أنه لم يسلك تلك الصحارى، حين يصف أهوال صحراء العراق، وهناك يظهر رصاص المازني الساخر، الذي يخترق النفوس قبل العقول، فيدميهما معاً.
وإجمالاً، فإن الريحاني، ومحمد أسد، والزركلي، وابن جبير، والشنقيطي، وشارل هوبير (في يومياته في صحراء الجزيرة العربية)، والرحالة الإيطالي جيرالد في رحلته من القدس إلى عنيزة، ومعاوية منور، ومحمد مرين، وحسن أوريد، جميعهم وصفوا الصحراء وأجادوا، ولكن وصف المازني يبقى في كفة، والباقون في كفة.
كان يظن نفسه خريتاً في الصحراء، لكن ظنونه خابت منذ أول اختبار في الرمال المتحركة، فقال:
(كان يُخيّل لي أني عرفت سرّها، واستبطنت كُنهها، وكنت أسترسل في هذا الوهم، فأتصور أنها أرض غابت عن رشدها، وفقدت وعيها، فهي لا تحسّ ولا تتنبه، وتارةً تبدو لي كأن القدرة التي بسطتها قد ملّتها، فانصرفت عنها ونسيتها، وشُغلت بسواها، فأعطف عليها وأرثي لها).
لكن ما إن رأى صحراء العراق، حتى تبدلت قناعاته، فكيف لو زار الربع الخالي؟ ربما لهجر الصحارى وكفر بطقوسها، وكتب ملحمةً تنافس الإلياذة، إذ قال:
(أدركت أن الحفنة من الرمل ليست هي الصحراء، ولكني كنت أحسب أني عرفتها، وفرغت منها، وكان ظني أن شأنها أبداً واحد، لا يختلف ولا يتغير، وأن كل ما فيها أنها رقعة منبسطة تكثر على وجهها الرمال، ويشق فيها السير).
أما جيرالد الإيطالي، فقد قدّم وصفاً بديعاً لزوابع الصحراء، تلك (العواصف الصغيرة) التي كنا نُحذر منها في أساطيرنا الشعبية، لكنه جعلنا نراها بعين الجمال، إذ كتب:
(مرت بنا بعض زوابع غبارية، فغالباً ما نشاهد برجاً عالياً من الرمل، يلتفّ ويدور مثل راقصة، تنحني ثم تتابع رقصها، أو تتوقف لتحية المعجبين بها، ثم تمضي من فوقنا، مداعبةً إيانا، تشق طريقها بخفة بين الإبل التي كانت ترعى حولنا، قبل أن تتعب من اللعب، وتتلاشى إلى الأبد).
ويصف معاوية منور صحراء الخرطوم وأم درمان وهو في القطار، قائلاً:
(بل إنني لا أعرف شعباً فُتن بأغانيه كما فُتن بها السودانيون، الموظف في مكتبه، التاجر في دكانه، الطالب، الشحاذ، الحمار، العامل، المزارع، والطفل الذي لم يتجاوز الثالثة.. كلهم يغنونها ويرددونها، في كل ساعة وكل مكان، حتى إن الرجل يشتري الأسطوانة الغنائية بعشرين قرشاً، وهو لا يملك قوت يومه)!
أما الروائية إليزابيث إيرهارت، فقد وجدت نفسها في رمال الصحراء، وتحدث بلسانها محمد مرين في رواية عرائس الرمل، فقال:
(يكفيني من الحياة متعتي في سفري الدائم، وفي فتنة الشغف المضطرم على أسطح البلدات الصحراوية. تكفيني حريتي، وسفري، وحبي للصحراء، هو ما أعاد إلى يُتمي ألفته، وعوّضني عن طفولتي الضائعة وأهلي الغائبين.. أنا بنت الرمل والشمس. وجدت في الصحراء عزائي وسعادتي، ووجدت بين الأهالي الصحراويين عيون وينابيع الإنسان بداخلي..).
والأديب المغربي حسن أوريد افتتن هو الآخر بسحر الصحراء، وقال:
(.. وكم لليل من سحر في الصحراء، لاسيما في الربيع أو الخريف، حتى في الصيف، تبدو السماء كأن النجوم مصابيح تتدلى، وقطوفها دانية. لآلئ منيرة، هي سميرة الليل ورفيقته، ثم ذلك الصمت المتصل، الذي لا يقطعه سوى أزيز الحشرات، صمتٌ يغري بمناجاة النفس ومراجعة الذات..). أما بولس سلامة، فلما رأى الرياض قال: (فإذا كانت الشمس ترسل ضفائرها في الثلوج لتبترد، فإنها على الكثبان تتعرى فتستحمّ، كأنها في تبرٍ سبيك، تسيل في المنحنيات عقياناً متوهجة، فإذا تلّهبت في شعاب الحَرّة، حسبتها نارَ الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة).
تساؤل ختامي: هل سمعتم بصحراء باردة؟
أترك الإجابة للقراء، مع مراعاة ما يُعرف بـ(التغيير المفاهيمي) ومعالجته.
أما السؤال الأهم: لماذا يتبادر إلى أذهاننا الحرّ حين نسمع كلمة (صحراء)؟

ذو صلة