إن السؤال الأكثر أهمية في هذا الأوان المعلوماتي الذي يرتكز على ثنائية العلاقة بين الذات البشرية الفاعلة التي تتمتع بالسمة الأخلاقية وبين الآلة الذكية المجردة التي تدار بشيفرة برمجية رياضياتية؛ هو الاعتبارية القيمية التي تعيّن مدى الصلة بين الطرفين؟ وهل ثمة تفوق من الأخير من حيث الرصد والحل والاستقبال لمشكلات الحياة اليومية التي يتعرض لها الإنسان؟
وفي حال حصل هذا التفوق، ما هي حقيقة الكائن البشري في حينها؟ وهل تبقى مزاياه الجوهرية محافظة على وظيفتها عندما تقترن مع هذه التقانات الذكية؟ كيف هي نظرة الإنسان المعاصر لمستحدثات الذكاء الاصطناعي؟ وهل هناك احترازات معينة أو مفكرة استقرائية تعنى بكنه الكائن البشري في حال لو اتخذت الآلة مساحة تفوق الصفات البشرية ليست على المستوى العضوي بل الجوهري؟ ولعلي أجد أن منح الروبوت أو التقانات الذكية صفات ماهوية أخلاقية يعطي انطباعاً مسبقاً بتأسيس حياة مغايرة لها تمثلاتها الإنسانية والثقافية، لكن ما هو الضرر بمنح الآلة الذكية سمة أخلاقية؟ وهل تعيد هيمنتها تدوير الكائن البشري على وفق مقرراتها التي تمنحها له؟ وهل ثمة قصدية في النتائج التي تقدمها الآلة الذكية أم أنها عبارة عن جملة رياضياتية مجردة لا تعطي مسوغاً إزاء أي حلول تقدمها؟ وهل النتائج التي تظهرها الآلة الذكية توجه لنا معنى لأي معالجة تقدمها؟ أليس المفترض من الفلاسفة الأخلاقيين غض النظر عن المفاهيم الإنسانية والأخلاقية في التقانات الذكية والاكتفاء بالمحصلة النهائية التي تقدمها للكائن البشري؟ هل من الممكن أن تعين السمات الأخلاقية عن طريق تشكيل منظومة برمجية موصلة بشيفرات غرضها منح العقل الآلاتي الذكي هذه الصفات أم أنها صفة بشرية بيولوجية بحتة لا يمكن أن تمنح إلا لمن امتلك أعضاء حسية ومؤثرات تستشعر كنه الكلمة وحقيقتها، بل تعي نسيج الفعل البشري وفق مدركاته النفسية التي تؤهله لبيان الصواب من عداه؟ ولعلنا نشكل على نقطة غاية بالأهمية، إنّ منح الروبوت الذكي وكالة أخلاقية مطلقة تتدخل في طريقة تصرفه أو التزامه موضوعاً معيناً مثل الجنس أو القضايا الإنسانية التي يتعرض لها في الطريق أو مركز التسوق أو المنزل أو علاقته بالموجودات التي ترتبط معه بصلات نفعية مثل جهاز المحمول أو السيارة أو مجهز الإنترنت قد يشكّل تحيزاً في إعطاء النتائج أو تمرير الخطأ من الصواب بالاتجاه الذي تملي عليه الوحدة البرمجية المعنية بتشخيص الحالة، أو قد يمنح له بعضاً وليس الكل من السمات الأخلاقية المناسبة في كيفية التعامل مع الموضوعات التي لا تنتج أبعاداً إنسانية عظيمة للبشرية، وفي حال منح الروبوت الذكي صفات أخلاقية كيف ستكون مقرراته إزاء السياسة والدين والمشكلات الاجتماعية؟ وهل يحق للكائن البشري أن يبدي اعتراضاً في مراحل معينة من المواضيع التي يكون فيها الروبوت خصماً له؟ ما هي نظرة الإنسان لنفسه حيال ما تقوم به برامج الذكاء الاصطناعي من مقررات علمية وبحوث ترقية في العلوم الإنسانية والتطبيقية؟ وعلى ثمة حدود من المفترض ألا يتجاوزها في حال لو سعت الآلة الذكية ذات المعالجات الفخمة الى التقليل من اعتبارية الكائن البشري الجوهرية لتحط من قدره؟ وهل لغة الماكنة باشتغالاتها التكنولوجية العتيدة التي اتسعت نتائجها على مفاصل الحياة جميعها؛ بددت رؤيتنا للحضارات الإنسانية السالفة؟ ماذا لو تفردت الآلة وصار الكائن البشري يعتمد عليها اعتماداً كلياً في إدارة شأنه، هل هذا يعني أن هنالك إجهازاً على الوعي لدى الإنسان وتمثلاته الفكرية إزاء أي فعل أخلاقي أو إنساني يتعرض له؟
واقعاً، إن منح الذكاء الاصطناعي وكالة أخلاقية متكاملة يمثل حيزاً مجتمعياً وثقافياً له أبعاده الإنسانية المرتبطة بالحياة والواقع، وقد تتسع هذه الوحدة معلنة التفرد التكنولوجي بحسب تعبير (نيك بوستروم) الذي بشر (بنهاية عصر الإنسان وإعطاء صورة لا تنتمي للأرض والطبيعة)، صورة متصلة بعوالم الخيال العلمي، وهنا تكون عملية اقتران أو اندماج بين الكائن البشري والآلة الذكية، ولعلي أجد أن الأثر الوجودي للإنسان سوف يضمحل تدريجاً ويصاب باليباب، ومما لا شك فيه، أن المؤثر الفعلي على أرض الواقع بالنسبة للتقانات الذكية سيكون جلياً في حال لو حصل أي عطل في الوحدة البرمجية المعالجة وتوقفت الأعمال التي يقوم بها، سيشعر الإنسان أنه إزاء مهام عسيرة وقضايا كبرى لا يمكن تداركها إلا عن طريق المرادف البشري الذي يتجسد بالروبوت، ويتخيل (ماكس تجمارك) (أن فريقاً يمكنه إنشاء ذكاء اصطناعي ليدير الكوكب)، وهنا تجدر الإشارة لماهية السرعة الفائقة بالنسبة لوظائفه، لذا سيكون هناك انفجار نوعي وتقني يتوالد فيما بعد ليشكل نوعاً من التمرد أو عدم السيطرة، لكن المشكلة الحقيقية التي تواجه الكائن البشري هي زعزعة كينونته وانشطارها إزاء هذه التحولات التقانية التي بدورها تعيّن سمات ثقافية مغايرة، وهذا ما أكده (يوفار هراري): (إن البشر سيعبدون البيانات ويثقون في قدرة الخوارزميات على اتخاذ قراراتهم)، وإذا سلّمنا بهذه الرؤية، كيف للكائن البشري المعاصر أن يستحوذ على خصوصيته؟ ولعلي أجد أن الافتضاح النسقي الكبير الذي جاء أثره عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي بدد كثيراً من السمات الأخلاقية المشكّلة لطبيعة القيم الإنسانية.
حقيقة الأمر، أن مفهوم تفوّق الذكاء الاصطناعي على الكائن البشري أصبح أمراً مفروضاً، وقد بدا ذلك جلياً عبر (المباراة التي عقدت بين اللاعب الصيني (لي سيدول) وبين (ألفا جول) البرنامج الاصطناعي الذكي الذي طورته شركة (ديب مايند) عندما التقيا في لعبة (جو) وهي لعبة صينية قديمة أشبه ما تكون بالشطرنج تقام بين لاعبين اثنين، الغريب أن تعلم الآلة وتخطيها مراحل عظيمة في اللعبة لم يأتِ عبر اتباع القواعد المعطاة بل جاء عن طريق الممارسة لمباريات عديدة)، وهذه اللعبة لا يمكن أن يلعبها إلا البشر كونها تعتمد اعتماداً كليا على الحدس، وهنا ننظر إلى طبيعة الخطر الذي يتشكل إزاء هذا الاستحداث البرمجي الذي يهبه الذكاء الاصطناعي لنفسه مما يخلق شعوراً بالخوف في قادم الأيام الذي يؤثر تأثيراً كبيراً على المنظومة الثقافية والاجتماعية للإنسان. ولعلي أجد أن هذا الاستحداث يتوالد تلقائياً في برنامج الذكاء الاصطناعي، ومن غير الممكن السيطرة عليه، وقد يكون عملية انتخاب تقاني عن طريق مجموعة ذكية مكونة من من خوارزميات تهيئ وحدة عضوية مجتمعية متكاملة على شكل مجاميع من الروبوتات التي بدورها تنتظم من ضمن معدات المحيط لتؤسس وعياً مختلفاً، لكن بودي أن أتوقف كثيراً عند علاقة الروبوت بالمحيط بوصفه حقيقة موجودة بل فاعلة أيضاً، وعن طبيعة الارتباط فيما بينهما ومنسوب الألفة التي تتكون عبر العادة أو المراس، وقد ينضوي تحت هذا الطرح الصلة بينه وبين البيئة واللون والأنواء الجوية، بل حتى بين روبوت وآخر من الجنس نفسه؟ وهل ثمة نزوع للمنافسة فيما بينهما أم المسألة مرتبطة بالمنفعة التي يقدمها؟ وهل يتخذ من العقدي والإثني دالة له بوصفه أحد تمثلات الكائن البشري مجاراة وطبيعة المجتمع أم أنه يوفر لنا خدمة غير معنية بالأسئلة التي تشكل صيرورة الإنسان من الناحية الجدلية أو الوجودية؟ وقد يكون هذا التحول في الهيكلية العامة التي ترمم المنظومة الثقافية والمعرفية للمجتمع، ومما لا شك فيه، أن العوامل التي تعمّد الكائن البشري تتغير بالتتابع نتيجة الخلق العلمي الذي يؤثر تأثيراً واضحاً على سياق الحياة بعموميتها، كذلك أجد أن علاقة الكائن البشري مع ابن جنسه من النوع البشري تختلف حتماً بناء على مقررات الواقع التقني.
بطبيعة الحال، إننا إزاء تحول علمي لا يقتصر على الخدمات التي تقدمها التقانات الذكية للإنسان وما يتصل بها من مجريات الحياة العامة؛ لكن هذه النقلة سوف تظهر نتائجها على النسيج المجتمعي، وهنا يبان أثره واضحاً على التركيب البنيوي لطبيعة المجتمعات من حيث التصرف وطريقة التعامل والبناء الإثنوغرافي، لذا سوف يحدث تغيراً في المفهوم والرؤية التي رممت ذاتية النفس واتساقها بالمحيط مما يكوّن نظاماً ثقافياً جديداً. فما يختلج في جوانية الشعور المنضوي للكائن البشري سوف تظهر نتائجه على شكل عبارة منطقية لا تقبل الخطأ ولو بنسب ضئيلة، لكن المواجهة ستكون من طرف واحد في حال لو تسيّد الروبوت الذكي وصار يدير الشأن ويتحكم بالحياة، هل الإنسان يمتلك القدرة الكافية ويستشعر أن مصيره يمضي نحو المجهول؟ وبودي أن أشير إلى أن هذا التحكم لا يدور بمساحة ضيقة على مستوى إدارة المهام أو تذليل العقبات لكنه سوف يتدخل في تعيين المدركات الإنسانية التي تتعلق بماهية العلاقة بين الذات البشرية والرؤية للآخر بغض النظر عن طبيعة الآخر، مع أن عالماً معلوماتياً محدثاً يمنحه لنا الذكاء الاصطناعي بالتجارة والتسويق وقيادة المركبات ذاتية الإدارة، بل حتى التنبؤ في الأحداث التي تحصل عن طريق قراءة الملامح التي باستطاعتها أن تستكشف الانفعالات والأحاسيس، وهذه بدأت منذ أجهزة كشف الكذب، لكن سوف تظهر هذه التقانات تخوفات أخلاقية مروعة.
إن الأزمة النفسية التي يتعرض لها إنسان هذا العالم والتي سوف ينتج عنها تجاوز لاعتباره القيمي والماهوي؛ ستشكل عنده شعوراً بالعدم الذي يقلق وجوده عن طريق الاعتماد على الآلة الذكية بشكل تام، لكن ماذا لو انشطرت هذه الخوارزمية وتحررت شيفرتها وأصبحت تسبب أضراراً فكرية وتبث خطاباً في الذم والكراهية أو تصدّر لنا بياناً طائفياً أو سياسياً يؤثر على العلاقة بين البشر؟ وهل لها القابلية أن تتحرر من وحدتها البرمجية لتجري استحداثاً برمجياً وتفعل ما تشاء؟ هذه الإشكالية الجدلية التي من الممكن أن تحصل في حال لو أصبحت أنظمة التشغيل الذكية هي التي تدير عمل المؤسسات ولها فاعلية في أن تطور نفسها عبر الشيفرات المعنية لتكوين عقل النظام، ولعلي أجد أن هناك إشكالاً مصاحباً لعمل هذه الأنظمة الذكية يتلخص في طريقة تعاطيها مع المنظومة الثقافية للكائن البشري، لأن تأدية أي مهمة يقوم بها تأتي عبر جهاز إدراكي معين، لذا على الآلة الذكية أن تستشعر كنه السؤال وحقيقته، وهنا تبان الفكرة التي عن طريقها تمنح الروبوتات التي تمتلك عقولاً عالية التصويب سمات أخلاقية باستطاعتها أن تعطي قصدية تستكشف جوهر الاستفهامات، لا أن تعطي نتائج على وفق الشيفرة التي تدير وحدتها البرمجية المعنية بالأحداث بوصفها مدخلات تفضي إلى حلول جامدة، وقد يظهر في قادم الأيام وبعد أن تدخلت الأنظمة التقنية الذكية في المجال الأدبي والبحوث العلمية والمقررات المنهجية، بل حتى في استقراء الأسئلة التي تحاكي الواقع والمعنية بالنوع البشري والطباع النفسية والحالات المرضية. إن الآلة الذكية وما ينتجه الذكاء الاصطناعي سيشكل حضوراً فاعلاً في إبراز هوية مغايرة لطبيعة المجتمعات والتي تتركز على خلق عوالم أقل ما يمكن أن نطلق عليها أنها متفوقة ذهنياً، بل تتجاوز الإنسان من حيث الاستفتاءات المعرفية والعلمية.