ليست الخوارزميات، فقط، رموزاً للتقنية الحديثة، بل هي إيقاعات بحرية وفضائية ونفسية تتغلغل الشعر، والجُمل السردية، والمعزوفات اللونية في الأعمال التشكيلية، ونبضات المعنى في أعمال التصوير الفنية، لتجعل من موسيقاها خلفية متحركة بتماوجٍ مناسب.
وهذا ما يلحظه المتلقي في أعمال الفنان المهندس السعودي محمد محتسب، خصوصاً، وأنّ صوره تريد أن تكون لوحاتٍ ضوئية ملونة بثقافات الشعوب، فتلتقط الحياة من ضفتها البعيدة، لتعكس تفاصيل الحياة اليومية في البلاد المنتشرة على الكرة الأرضية، بين المدن والقرى والأرياف، والشوارع، والصحارى، والبحار، والمزارع، والبيوت، والمدارس، والأسواق ومنها السوق العائم في كشمير، وما بينها من حياة متنوعة لعشرين دولة.
وإضافة لتركيز الفنان على الجانب الإنساني من عادات يومية وموسمية، وخرافات مثل تعويذة الأسنان السوداء في فيتنام، ورياضات مثل فن الفروسية في المغرب، وشخصيات مثل الباعة، ومنهم بائع الأقمشة في البحرين، وحرف موروثة ومعاصرة، نجده يرصد بترحاله هذا العالم الذي ضمّنه الكائنات المختلفة والمتنوعة، ومنها الأحصنة والصقور والنباتات والأشجار والضباب.
أمّا أهم أسرار اللقطة التعبيرية الفنية القارئة للكواليس الحياتية فتكمن في اعتماده على عدة عوامل أساسية، أولها الضوء والظل وتوقيتهما الأنسب بين الشفق والغسق، وثانيهما هندسة الضوء الواقعي مع اللحظة المتخيَّلة من خلال بصيرة الفنان وموقعه أثناء اللقطة مع التركيز على المسقط الضوئي للصورة وتناغمه مع مركز (التبئير) من حيث (الفوكاس)، وثالثها تصوير البعد الروحي لعلاقات العناصر والتفاصيل المتحركة بين الإنسان والزمان والمكان والفضاء، والتقائه مع هدف الصورة وتشكيلاتها المتناغمة مع الكتلة والفراغ، والمنسجمة مع مجتمعها البيئي، والطبيعي، والبشري، ورابعها التقاء هذه المحاور مع مكانية الصورة الواقعية، ومكوناتها، وما ينعكس من دلالاتها، وخامسها درامية السرد البصري وحبكته للإضاءة على النص الغائب من الصورة.
وبالفعل، تتحول الصور إلى لوحات سردية تتمحور حول الحالة الملتقطة كانعكاس لغوي فني للغة البصرية، تضاف كشخصية مخفية إلى شخصيات اللقطة مما يجعل ضوء هذه الحالة ضوءاً آخر للصورة، لآنه، وكما أخبرني الفنان محمد محتسب الحائز على 600 جائزة دولية، أنه لا يصور الشخص فقط، بل الفضاء الشامل للحالة الداخلية وفضائها الزماني والمكاني، وذلك على هامش معرضه (ميموريا) الذي أقيم في ندوة الثقافة والعلوم بدبي بالتعاون مع الجمعية العربية للثقافة والفنون في جدة.
ومن تلك الصور (صناعة البخور) الملتقطة في فيتنام، ويمتد فيها البخور أمواجاً أرجوانية بلا حدود، تحيط بالإنسان الوحيد المنشغل بعمله، ويبدو أثره درباً أبيضَ ممزوجاً برائحة عطرة تفوح مع ذكريات كل منا.
وتضعنا مشهدية (الصناعة اليدوية للعقال المقصب في مكة) ضمن أجواء العمل، وانغماس شخصيات الصورة بعملهم الدقيق ومتطلباته من أدوات بسيطة تنتج قطعة مهمة مشغولة بشغف. وتنقلنا أنامل الجدة الإماراتية إلى (السفافة) وذاكرتها الموروثة مع المنتجات المرتكزة على خوص وسعف النخيل في لقطة مبدعة.
ومع صورة عائلة (حصاد الملح) نصل إلى الهند لنكون داخل لقطة حياتية لطفلة جالسة وسط الملح الأبيض، تحت أشعة الشمس، تحضن أخاها، وخلفها ينهمك أحد أقربائها في تجميع ونقل الملح.
وتسحرنا صورة (صحراء بدية) ورمالها الذهبية في سلطنة عُمان، وما توحي به من تدرجات لونية بين ظل العتمة وأشعة الشمس وانعكاساتها على الجِمال والجَمّال وشرود المتلقي في مرايا الجَمال.
ونرجع مع صورة (دفء العائلة) الملتقطة في الكويت إلى الحنين المتسرب من أصابع الأم وهي تجدل شعر ابنتها بحنان لا يوصف، تكمله طمأنينة الطفلة الواقفة أمام الباب نصْف المفتوح، والطفلة الواقفة وراء الشبّاك، وتلمع الصورة بابتسامات المحبة المرسومة على الوجوه في منزل فلكلوري بسيط الأثاث، عميق الإنسانية.