كان هناك تقارب روحي مُعين بين هارولد بنتر وصمويل بيكيت، فكلاهما يشتركان في التشاؤم الشديد حول الوضع الإنساني، وبالطبع، كان بينهما ارتباطٌ شخصي وثيق استمر لسنوات عديدة. لكن بيكيت هو الذي جاء أولاً، ليس لأنه غاص في الأعماق بشكل أعمق من بنتر، ولكن لأن العديد من رؤاه قد تم دمجها وإعادة صياغتها في مسرحيات بنتر. سيكون من المبالغة القول بأن بيكيت هو الذي أفرز بنتر، ولكن سيكون من المجحف عدم الإشارة إلى أن الكثير من رؤية بيكيت للعالم قد تم تجزئتها بشكل درامي من قِبل بنتر في مسرحيات مثل (الأرض الحرام) و(العودة إلى الوطن).
غاص بيكيت في الكونيات لمواجهة كآبة الحياة التي لا مناص منها، لكن بنتر صاغ بدقة مادة سردية عن الأصدقاء، والتائهين، والأزواج، والزوجات، والعلاقات الشخصية، كانت هذه شخصيات غُلِّفت في عالم لا شيء فيه ملموس أبداً، لم تكن التعقيدات التي يضعها ترجع إلى مصدر يمكن التحقق منه، بل إلى لغز. بمعنى أن بنتر كتب (مسرحيات غامضة) لم يتم كشف الجريمة أو تقديم المذنبين إلى العدالة. لقد اهتم بالشخصيات التي تسعى وراء الحقوق الإقليمية والسلطة التي تنبع من اكتسابها، وصور درامياً الطريقة التي نستعمر بها بعضنا بعضاً بخبثٍ أو بشكل فج. وبذلك، توصل إلى حقيقة عالمية مزعجة: وهي أن بعض المكائد البدائية لا تزال تختبئ تحت مظهرنا الخارجي المتحضر. لقد استخدم كلا الكاتبين أدوات الكوميديا السوداء، وكانت مسرحياتهما تنتج ذلك النوع من الضحك الذي يترك بعد أن ينفجر طعماً مراً وراءه.
تُعد مسرحية (المجموعة) التي قدمتها مؤخراً باللغة الإنجليزية (فرقة مسرح ذات) في كوبنهاجن مثالاً جيداً على لغز لا يزال دون حل بشكل مقلق، فكأن أجاثا كريستي قررت، بعد أن نسجت حبكة مُروعة مليئة بالجرائم والخداع، أن تحجب المشهد الأخير الذي لا يكشف فيه المفتش الجنائي من سكوتلانديارد عن الجاني، ولا عن دوافع الطرف المذنب. إنها مسرحية غامضة تُذكرنا بمسرحيات الغموض في أوروبا في القرون الوسطى، باستثناء حقيقة أنها علمانية وليست دينية، ولكنها لا تزال مسكونة بحس (العالم الآخر).
يجب البحث عن مسرحية كوبنهاجن إن لم يكن لسببٍ آخر غير أنها تمتلك أداءً محورياً متوازناً تماماً من قبل ممثلة دنماركية-بريطانية غامضة وخادعة تدعى سيرا ستامب، وهو أداء يُعيد إلى الأذهان ذلك النوع من الأعمال التي اعتادت فيفيان ميرشانت تقديمها في مسرحيات بنتر المبكرة. (كانت ميرشانت البطلة المفضلة لدى هارولد بنتر) تلقي ستامب، وهي خريجة حديثة التخرج من أكاديمية ويبر-دوجلاس في لندن، هالة واضحة على (المجموعة) منتجة بالضبط ذلك النوع من الجاذبية الغامضة التي يجب أن تتمتع بها الشخصيات النسائية البنترية عميقة الجذور إذا كان غموضها سيكون ساحراً ومحيراً في آن واحد.
تتمحور حبكة المسرحية حول علاقة عابرة لليلة واحدة قد تكون حدثت أو لم تحدث بين زوجة وعشيق خشن يتعايش مع مُصمم ملابس مُفرط في الحماية، وبعد كل تقلباتها الخادعة، تنتهي المسرحية على إيقاعٍ خادعٍ حيث يعتقد الزوج أنه لم تحدث أي علاقة غرامية بالفعل، بينما تدفعنا ابتسامة الموناليزا التي تظهر بها سيرا ستامب إلى تحديد ما إذا كانت تكذب أم لا. مسرحية ظل نموذجية من مسرحيات الظل البنترية التي يتم فيها الإيحاء بكل شيء دون تقديم أي شيء ملموس. يغادر الجمهور وشكٌّ مقلقٌ ينتابه بأن لا شيء يمكن معرفته بشكل قاطع في العلاقات الشخصية.
مع تصاعد مكانة بنتر الاجتماعية الخاصة، في السبعينات من القرن الماضي، تغيرت موضوعاته بشكل ملحوظ، إذ لم يعد يتعامل مع شخصيات هامشية مثل ذلك المتجول غير المهذب من سيدكاب في مسرحية (الناظر)، بل استكشف سلوكيات وأنماط حياة لشخصيات من الطبقة الوسطى التي عكست بطرق خفية الحياة الجديدة التي كان يعيشها مع زوجته الثانية الليدي أنطونيا فريزر (وهي شخصية تبدو غريبة تماماً في أرض بنتر) وقد بدت بعض هذه المسرحيات اللاحقة مثل (خيانة) و(الأيام الخوالي)، التي تتناول شخصيات من الطبقة الوسطى، وكأنها نسخ بنترية من أعمال سومرست موم أو وليم دوجلاس هوم، وأعطت انطباعاً بأن صبياً فقيراً من هاكني يقتحم حفلة راقية في أعالي مايفير. يجب على الكاتب أن ينمو ويتكيف مع التغيرات التي طرأت على حياته، ولكن بطريقة ما لم يكن العالم الراقي مؤهلاً للأوضاع الاجتماعية الغامضة التي ولدت فيها البنترية لأول مرة.
كان أداء بنتر أفضل بكثير من أداء بيكيت من حيث النجاح التجاري، إذ أن مسرحياته كانت تحقق نجاحات في (ويست إند)، وكانت له عروض مسرحية كبيرة قدمتها فرق مسرحية مثل فرقة شكسبير الملكية حيث كان يمكن رؤيته في كثير من الأحيان في عهد بيتر هول وهو يمارس التمارين في البهو الداخلي. كانت هناك أيضاً مسيرة مهنية مثمرة في كتابة السيناريو مع أفلام مثل (الوسيط) و(زوجة الملازم الفرنسي) و(حكاية خادمة) و(المحاكمة) و(مذكرة كويلر) و(الزعيم الأخير) قبل أن يصبح كاتباً مسرحياً، كان بنتر قد أصبح نموذجاً للموضة إذ أنه كان يفخر بكونه في قائمة أفضل الرجال الذين يرتدون الملابس في إنجلترا. لكن في السبعينات من القرن الماضي كانت هناك انتقادات بأنه في المسرح، الذي كثيراً ما كان يقلده كتاب مسرحيون أقل منه في المسرح، أصبح مألوفاً أكثر من اللازم. وبدا في بعض الأحيان وكأنه يقلد أسلوب كاتب مسرحي عصري يُدعى هارولد بنتر.
بعد فترة طويلة من التوقف عن الكتابة، خرج بعدد قليل من الأعمال القصيرة وبضمير اجتماعي مدهش. أقول (مدهش) لأنني أتذكر أنه في الستينات، عندما سُئِل الكتاب المسرحيون وغيرهم من مُمارسي الفنون عن رأيهم في دخول إنجلترا السوق المشتركة، كان رد بنتر المقتضب أنه لا يهتم بطريقة أو بأخرى ولم يُولِ الموضوع أي اهتمام على الإطلاق.
في عام 1958، افتتحت مسرحية (حفل عيد الميلاد) التي انتقدها جميع النقاد تقريباً باستثناء ناقد واحد وهو هارولد هوبسون في صحيفة (صنداي تايمز)، وأغلقت في غضون أسبوع. شعرت أنا وأبطال آخرون من أنصار الكاتب المسرحي المرتبطين بمجلة (إنكور) أن عملاً شنيعاً من الظلم قد ارتُكِب. وتحت رعاية مجلة (إنكور)، قررنا نشر المسرحية التي تم الاستخفاف بها، الأمر الذي أبقى روح بنتر مرفوعة واسمه أمام الجمهور.
بعد ذلك بعامين، عندما كانت كل أنحاء ويست إند تعج بالإنتاج المرتقب لمسرحية (وحيد القرن) ليوجين يونيسكو التي أخرجها أورسون ويلز وقام ببطولتها السير لورنس أوليفييه، افتُتحت مسرحية (الناظر) دون ضجة في مسرح الفنون الصغير. كان لدى أولئك الذين رحبوا بقدومه في مسرحية (حفل عيد الميلاد) المشؤومة سبب للاحتفال، ومن المفارقات أن إنتاج أورسون ويلز ولورنس أوليفييه الذي حظي بتقدير كبير قد تبدد بينما كانت إنجلترا تعيد تقييم مزايا الفتى القادم من هاكني. عند هذه النقطة يجدر بي أن أوقف هذه النبذة شبه الموضوعية عن الرجل وأعترف بأنني عرفته جيداً في الأيام الأولى من حياته المهنية في إنجلترا، وبالتالي لا يمكنني أن أكون محايداً.
أتذكر لقاءً جمعني مع بنتر قبل افتتاح مسرحية (الناظر) خلال الفترة الكئيبة التي تلت مسرحية (حفل عيد الميلاد) عندما كان لا يزال في نوهيرسفيل. كان قد انتهى للتو من مسرحيته الجديدة وكان يسرد لي قصتها. سألته عرضاً عن موضوعها الحقيقي. (كان هذا قبل أن تكون الأسئلة المباشرة من هذا القبيل ممنوعة على شخص مغلق الفم وغير صريح مثل هارولد بنتر) (ماذا تعني؟) فأجابني كما لو كان الاستفسار عن معنى المسرحية يشبه طلب نسخة مطبوعة من تقرير تشريح الجثة، (إنها عن الحب)، قالها وهو يدق على كلمة (واضح ذاتياً) بقوة لدرجة جعلتني أشعر بأنني غبي يقف في الصف، سرعان ما غيرت الموضوع. بعد مشاهدتي للمسرحية، وحتى الآن عندما أحضر إعادة عرضها، أحاول التوفيق بين إجابته وبين المزاج والحركات والمواد التي تشكل (الناظر). أفترض أنه ببراعة تأويلية كبيرة يمكن للمرء أن يوفق بين مغزى أي مسرحية وأي عمومية كبيرة وشاملة تقريباً، لكن عليّ أن أعترف أنه بعد كل هذه السنوات، ما زلت لا أستطيع أن أوفِّق بين تلخيص هارولد وطبيعة المسرحية التي كتبها.
على الرغم من مزاجه قليل الكلام، أصبح بنتر متاحاً بسهولة للجمهور والصحافـــــة خــــلال السبعينــــات والثمانينات من القرن الماضي. وبالمقارنة، ظل بيكيت بعيداً ولا يمكن الوصول إليه حتى نهاية حياته. لم يتخل أبداً شخصياً عن الانعزالية التي تغلف مسرحيات مثل (شريط كراب الأخير) و(لعبة النهاية). لقد عمل بنتر بنجاح في ساحة عامة أكبر في التعامل مع الشخصيات والمواقف التي يمكننا التعرف عليها بسهولة وتغيير حالات الشك والحقد المألوفة لنا جميعاً.
هناك، أولئك النقاد، مثل تيري تيشاوت، الناقد المسرحي لصحيفة (وول ستريت جورنال)، الذين يعتقدون بشدة أن هارولد بنتر حصل على جائزة نوبل للآداب بسبب آرائه السياسية الصريحة حول الهزيمة الأمريكية في العراق. الحقيقة الأكبر هنا هي أن الكاتب المسرحي الذي بدأ حياته المهنية في التدقيق في الشرور التي تجتاح حياة الناس العاديين قد تطور بشكل طبيعي إلى فنان كان قادراً على استقراء تلك الأفكار في المجتمع الأكبر الذي انبثقت منه، تلك الوقفات المميزة التي تخترق الكثير من أعماله هي الأعماق الإنسانية التي افترض منها هارولد بنتر فهمه لأوجه القصور في الحضارة الحديثة.
أليس هذا ما يفترض أن يكون عنه (الأدب)؟
*كاتب وناقد مسرحي أمريكي