أعمال تظهر وتختفي
تستمد الحضارة الحديثة قوتها من الإثارة الجاذبة للانتباه في تصويرها للحالة الراهنة للمجتمع، غير أن هذا التجسيد على امتداده الواسع، فإنه متأرجح، لا يحتوي على أية دعامات متينة تقيه تقلبات الآراء والتوجهات المتبدلة، لأنه غير مستمد من روح العصر إنما يستمد سيرورته من الأفكار المفاجئة والرغبات الفردية الناشئة في جماعات أو منظمات أو مراكز تحاول بناء صيتٍ لها فتسعى للدخول في مجالات الثقافة واقتحامها برؤى تحارب الأصالة، مستعينةً أحياناً بالكلاسيكيات، ليس لتطويرها أو النهل من مصادرها، بل لتحريفها أو تشويهها، فقد يقرأ أحدهم كتاباً عن ملحمة الشاعر والفارس عنترة، لكنه في محاولته لنقل هذه التجربة للواقع المعاصر بإنتاج جديد، بغض النظر عن الوسيلة التي سيختارها، سواءً أكانت أدائية أو بصرية أو كتابية، فإن العامل الأبرز في تحديث الوقائع الماضية -و هو الابتكار - يغيب تماماً عن المنتجين الجدد، فلا وجود للتفرد في الرؤية الإنتاجية، مما يعيق أي عمل ينشأ في مثل هذه الظروف من الاستمرار في أذهان الشعوب، فالماضي بما فيه من أحداث وآثار عظيمة لا يكفي ليصنع من الحاضر ما صنعه في زمانه السالف. وإنها لمسألة شاقة أن تأتي بالجديد من شيء قديم.
النجاح يظهر ولو بعد حين
هناك تفاعلية هي مبهرة في شيوعها فيما يتعلق بالأنشطة الثقافية الحديثة، غير أن المؤسف أنها -في الغالب- تفاعلية خالية من المعاني العميقة، لذا فهذه الحركية يغلب عليها الخواء، خواء قد يظهر بعد مدة من إتمام عمل ما، وقد يأتي فورياً، في هيئة تشرذم و تمزق لذات الحركة فتخبو رويداً رويداً.
فمن الممكن أن يتم إنتاج فيلمٍ ما مستوحى من أحداث تاريخية أو خيالية، وتُصرف عليه مبالغ طائلة كميزانية للعمل مرصودة تستهدف الإيفاء بكل متطلباته من أجور ممثلين وعاملين وسيناريو وتكاليف الإنتاج وتسويق ترويجي، ثم تكون نتيجة كل تلك الجهود مخيبة للآمال، إذ تكون ردة الفعل الضعيفة من الجماهير في إقبالها المتواضع على شباك التذاكر في صالات السينما لمشاهدة الفيلم، دليلاً على فشل غير متوقع في مجموع الإيرادات المتوقع حصدها، قياساً بما رصد واُنفِق على الفيلم كما حصل في فيلم (فاليريان ومدينة الألف كوكب) أو (الملك آرثر: أسطورة السيف) وغيرهما الكثير.
أحد الأسباب يتعلق بالتسرع، الحركة السريعة، ليست الحماسة لوحدها قادرة على ضمان الإنتاج المتميز، فهناك عوامل عديدة تسهم في ديمومة العمل الفني، والعمل الخالد حتى لو لم يكن ذا انتشار في زمنه، فإن زمن آت يحل لنجد ذلك العمل انتشر انتشاراً لا يُضاهى، نظراً لما يحتويه ذلك العمل من أصالة بنيوية، إنما تحليه بالجزء الأكبر من الأصالة كاف لضمان خلوده، ولعل كتاب الأمير لميكافيللي يعد من الأمثلة المناسبة في مجالات التأليف الكتابي، فحين صدور كتابه لم ينل الاهتمام المطلوب وكان من الكتب الهامشية تقريباً، لكن في عقود وقرون لاحقة، اتسعت شهرة الكتاب وتضاعفت مبيعاته وتوالت طبعاته في مسيرة لاتزال إلى اليوم تواصل الانتشار بوتيرةٍ لا تتوقف، وتخطى الأمر قراءة الكتاب، إلى إصدار شروحات ودراسات وتفاصيل للكتاب وزمان تأليفه بما فيه من أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية، بل إن شخصية الكاتب نفسه خضعت لآراء وتحليلات لم ينلها أباطرة كبار في ذلك الزمن، وصارت الميكيافيلية مصطلحاً خاصاً لها ما لها من مميزات ودلالات مستوحاة من كتابات المؤلف.
منهجية التواصل
لابد من حدوث الانقطاع والانفصال بين التيارات المختلفة في تصارعها لإثبات ذاتها بما تطرحه من منتجات ثقافية للاستحواذ على انتباه العامة، وهذا الانفصال لا يأتي من تفوق إحداها على الأخرى، غالباً فإن مصدره يأتي من لهاث الحداثة المعاصرة، التزود من الفراغ، وهو تزود لا يقتصر على الجمهور، بل تأثيراته تضم صاحب الإنتاج أيضاً، فاقتصار العمل على الحماس، والربح التجاري، والترفيه الخفيف، يجعل من الاستدامة الفنية شيئاً شبه مستحيل.
الإبداع يحتاج للتواصل الفعال في ذات المسار الفني المراد الاشتغال فيه. فكل انقطاع رجعية، التواصل يحرر الإمكانيات بما يعززه في ذاته بانتهاله من المصادر التي خاضت غمار نفس التوجه.
كي يكون العمل طليعياً، فإننا نحتاج للماضي لنعرف أين كنا، كي نحدد بالضبط أين سنصبح في الحاضر، لذا يبقى الماضي محمولاً في ذات المبدع، دون أن يعني ذلك أنه سيستولي على معالم الحاضر، هذا ما يُحدث الأثر المرغوب، لحظة تصادم الإرادات المتضاربة، الاختلاف المُثري للحياة، فبحدوث التفاعل والتطرف الحميد في السعي لبلوغ المآلات الإيجابية المرتقبة، فإن التغيير الشامل المنتظر، والتشييد المتكامل للإرادة الجديدة يبدأ في النمو، في متلازمة حتمية تسعى للوصول لنتائج مستخلصة من صراع الماضي والحاضر فينتج لنا شيء جديد ندعوه بالمستقبل.
وهذا الصراع تراكمي في حدوثه، معالمه تدريجية في تشكلها وإن بدت دفعية في حصولها.
الحياد الإبداعي.. ماذا عن المستقبل؟
هناك ترقب يحدث، وشكوك، وعدم يقين، من الارتباك نصل للثقة، إنها مسيرة الصبر، خطوات تتلو خطوات، بدونها لا أمل بالانعتاق من الماضي، ولا فرصة بمواكبة الحاضر، فيغيب المستقبل الجميل، لنبقى نعيش الماضي في الحاضر، في مشهدية مأساوية، كمأساة الغريق الذي يشاهد نفسه يغرق ويغرق ليقترب من الموت الحتمي فيما الطيور على بعد مسافة قصيرة منه، تتطاير بأجنحتها تحلق حوله، مغردة طروبة، غير مدركة وربما غير عابئة لما يجري حولها.
التقدم يستوجب المران لتثبيت البناء الداخلي للذات والعمل، فنعانق الأسطورة أو التاريخ من جهة، ونعانق الواقع في الجهة المقابلة.
بهذين العناقين تُولد المعالم الأولى للنص، معلنةً بشائر الظهور الإبداعي.
أما انغلاق المجتمع باكتفائه بالتغييرات الشكلية دون ملامسة الجذور، فلا شك بأنه يحمل عواقب مؤلمة لما سيأتي، فالنتائج الأكيدة تبقى مجهولة لا يمكن الجزم بمدى ضررها، إنها حداثة ميتة سريرياً، وتخضع للإنعاش بالترويج والدعم لإبقائها حية لأطول وقتٍ ممكن، هذا ما ندعوه بالوعي المشتت، وعي يفتقر للنباهة، وفيما الوعي الابتكاري يتضاءل، فإن الوعي المشتت يتمركز في إدارته لأساليب الحياة الزائفة، صدمات متلاحقة، صدمات كل واحدة تدعم ما قبلها، بينما تتقطع الأسس الصلبة للحداثة الواعية بمعارفها وخبرتها واستقلاليتها، ليحل بديلاً عنها حداثة بالإيجار، فمن يدفع أكثر سينالها، ثقافة التسليع الفاحش، قاذفة سهامها، سهماً بعد سهم، لتمزيق اللب الوحيد للحداثة الحقيقية، في صيرورة تحولية من النظرية المحتملة، إلى التطبيق المؤكد، ليسود الضباب الحداثي الركيك، يسود ليقتحم ويضلل كل شيء، لكن الواقع أن لا سيادة لشيء، فحين تسود ثقافة الجماهير الضحلة في المجتمع، فعن أي سيادة نتحدث؟
يتعلق الأمر الجدي بالقدرة الحصرية للعمل على استثارة المتلقي وبعث النشوة ذات البعد التحويلي في فكره، استثارة تخاطب الروح مثلما تخاطب العقل، إننا نرى في الفنون الحديثة جاذبية حيادية وتراجعية، نكوص للخلف، حياد هو ضد ما تنادي به الفنون من مبدئية الانحياز للجماليات، إن ما يفتن يستثير الوجدان، أما المنجز الذي اختصت به الآداب المعاصرة هو حياديتها الخالية من الحرارة الوجدانية، برود يشع من العمل، ومع كثرة الانكباب على هكذا أعمال فإن الحيادية تترسخ، المستقبل يوضح لنا لماذا لم نعد نقرأ لكتاب سابقين كانوا رائجين في مرحلة ما.
التصنيفات الموسيقية الرائجة في سبعينات القرن العشرين لم تعد مطلوبة اليوم، على الرغم من شهرتها في ذلك الزمن، حل بدلاً عنها دمج بين أنواعها في ثورة شبابية استهدفت التغيير كردة فعل طبيعية على المتغيرات التي طالت الحياة، فصار من الطبيعي أن نرى الراب مندمجاً مع الإيمو والريغي مع الهيب هوب في إيقاعات متداخلة أو متتابعة في نهج تجريبي مغاير لأصولها الأولى.
الأمر كذلك ينطبق على كتابات كثير من المفكرين والفلاسفة، لعل ماركس أحد هؤلاء، فأين هي الماركسية؟ وماذا تبقى من ماركس في عالم اليوم؟
الموضة.. البريق المؤقت
يعطينا تتبع تاريخ الشعراء توضيحاً مذهلاً لتعزيز هذه الفكرة.
إن شاعراً نال سمعة كبيرة في فرنسا الملكية وهو رينييه بقصائده الساخرة لا يكاد يُعرف خارج حدود فرنسا اليوم، وحتى داخل فرنسا طالته أيادي الإهمال، رغم شهرته الكبيرة في عصر الحكم الملكي البوربوني، بينما لافونتين نجده حاضراً اليوم، سواءً في قصائده، أو قصصه التي نالت النصيب الأكثر من الرواج.
لماذا نُسِي رينيه بينما لايزال لافونتين حاضراً؟
لو أجرينا تتبعاً دقيقاً لمسيرة الشعراء العرب منذ العصر الجاهلي، سنلحظ بوضوح (النسيان) الذي طال كُثر ممن اشتهروا في زمانهم ولكنهم اليوم مجهولين لا يعرفهم أحد.
هناك وضوح لا نلاحظه إلا بعد انقضاء عقود أو حتى قرون، يتعلق بقيمة ما تم إنتاجه في تلك الفترات، وبقدر ما ننسى موضة كانت رائجة منذ عشر سنوات وأصبحت بائرة اليوم، فإننا ننسى تلك الآداب والفنون التي كانت هي الذوق الرسمي في زمانها، إننا نتلقاها بلا مبالاة.
هي ليست وليدة الحاضر، قد تتطلب بعض العصور نوعية خاصة من الآداب تفيد زمانها، لكن تعاقب العصور يمسح قيمتها، فلا تبقى لها أهمية إلا بربطها بالأثر الذي أحدثته في زمانها.
هي بمثابة وثيقة زمنية مؤقتة غير قادرة على الاستمرارية، ولمثل هذا أُنشِئت المتاحف.
وحاجتها في زمانها لا يعني عدم أهميتها، إنها أهمية تقاس بالبعد المجتمعي أو الثقافي السائد آنذاك، وفي هذا المضمار، فإن أديباً ما قد يتصور نفسه أنه أرسطو زمانه أو متنبي زمانه لحظة إتمامه لكتابه أو قصيدته، الهوس بالمنجز يجتاح عقول الشخصيات الموسمية.
النمط المصاحب للموضة في كل تبدلاتها، نمط يُنتِج كما لم يُنتَج من قبل، غير أن كافة نتاجه سيُرمى في وديان النسيان السحيقة، وعبثاً نحاول بعثه من جديد، فليس للزمن استقلالية تعينه ليعود للوراء، لقد سارت عربة الزمن للأمام، ولن تعود للوراء.
ولتلك المؤلفات المنسية، يكفي مؤلفوها أنهم أنجزوها، قاموا بمهمتهم التي فرضتها ضرورة عصرهم، أما القارئ المعاصر، المتلقي، فلا يسعه سوى أن يتطلع لها كما يتطلع لطيور مهاجرة من مكان لآخر، فلا تكاد تستقر في مكان حتى تغادر لغيره، إنها نظرة عدم بقاء، نظرة تذكارية لأثرٍ مُحِيت معظم معالمه، وتبقى منه القليل، حيث لا وجود للحياة، نظرة وداع لأزمنة قديمة جداً، موحشة ومظلمةٍ وقاسية، ساخنةٍ كالصحراء العربية الشاسعة، باردة كالشتاء الأوروبي القارس، جامدة كجليد سيبيريا الكئيب.