جل النّظريات الأدبية التي نشأت في عصر ما بعد الماركسية وحتى حقبة الما بعد كولونيالية الحديثة أتت وفق النّقاد من أجل اللّحاق بالواقع والقبض على اللّحظة الشعرية التي تتجسد فيها إنسانية الإنسان بما يعني وجوده وكذا تمثيله وخطابه القيمي، فقد كُرّست النّظريات الأدبية وفق سيرورتها، المحاكاة والانعكاس والخلق والتلقي والأجناس الأدبية محاولةً تأطير العلاقة المفاهيمية بين كل من: الأدب وكاتبه، وكذا تجلية ماهية الأدب نفسه والحاجة إليه، وكذلك تبيّن وظيفة الأدب وأثره.
فقد كان الشعر في العهد الإغريقي القديم عند أرسطو تحديداً ينهض وفق مبدأ المحاكاة وتطبيقاتها التسجيلية التي تشبه في مظهرها أداء المرآة المستوية، غير أنه وفي الحقبة الماركسية غيّر الشعر والنثر على حد سواء من وظيفته لتصبح ذات طبيعة انعكاسية تماثلية تتعاطى مع واقعٍ تحكمه تلك الأيديولوجيا الماركسية، إذ الشعر يعيد صوغ المعطى المادي وينزع كذلك الأمر الألفة عن الواقع، ثم يقوم بتكثيف اللّحظة عبر تجليات تخرج لاحقاً جراء ذلك السبك غير العادي للغة، واللغة هنا هي المفردات والأصوات والرموز والإيقاع وهي أيضاً من رحم الواقع الاجتماعي والتاريخي الذي أنتج الشعر، فاللغة الشعرية وبفضل طاقتها التخييلية تُمكّن الشّاعر من تلبّس وقائع وحالات جديدة، والقيام بأدوار ووظائف لم تتأت له قبلاً، رغم أنها كانت قبل التخييل هذا مستحيلة وغير ممكنة.
ووفقاً لهاتين النظريتين السياقيتين: المحاكاة والانعكاس ظلّ الشّعر العربي مستجيباً وباقتدار لحكم الأيديولوجيا ولسياقه الاجتماعي الذي فُرِض بسبب سلطته المركزية على الشعر، فصار يصدر أحكامه على ما يقع، أو وقع، أو كان من الممكن وقوعه، وكذلك صار يرفع من قَدر قيم دون أخرى، تبعاً لفلسفة التعاطي مع القضايا في حينه، وعربياً كان المدّ القومي والماركسي اللّذان شكلا ثقافة تحكمها وتسيطر عليها الأيديولوجيا مسيطراً على الشّعر العربي منذ حقبة الستينات من القرن المنصرم وحتى مطلع الألفية التي شهدت سقوط الأيديولوجيات الكبرى، فهل تمكّن الشّاعر العربي اليوم من التخلّص من نِير التبعية للأيديولوجيا أم أنه أعاد فهمَها بسبب تبعات مرحلة ما بعد الاستعمارية (الكولونيالية)؟، ولهذا نرصد بوضوح كيف أن الشعر القومي في مضمونه قد أخذ يتراجع نتيجة استجابة الشعر العربي تحديداً في تلك الحقبة وتأثره بالنتيجة التي آل إليها الصراع العربي الإسرائيلي، ونتيجة العولمة الجديدة، ونتيجة تداعيات حرب الخليج ثم انفتاح الحداثة بشكل مذهل ومتسارع على آداب غربية التأثر بها يعني التخلص من النستولوجيا العربية وتجريب أشكال شعرية وأبنية شعرية جديدة لا تقيم أي اعتبار لعمود الشعر وصرامته.
فقد أخذت مشاعر العروبة تخبو وتتراجع، ومعها أخذت الذات تتقوقع وتنحسر في محاولة لفهم التسارع الهائل في السياق الاجتماعي والتحول الكبير في البناء المجتمعي والسياسي على السواء، فقد تبدلت وقتذاك القضايا الإنسانية وصرنا أمام واقعية جديدة مختلفة، ومعها تحول شعراء عرب من محليتهم نحو عالمية فضفاضة أوسع أفقاً، وبالعودة إلى النظريات السياقية: المحاكاة والانعكاس نجد أن الطوق السياقي الذي فرضته مقولات هاتيك النظريات قد سقط وفتح الطريق واسعاً لنظرية الفرد أو الذات، وهي نظرية الخلق التي تجد في الفرد منطلقاً حراً وغير مقيد أو منقاد لسياقه الجمعي، لذا فإن الطرح الوجودي العربي والذي عَبّر عن فشله مراراً لا سيما في الدواوين الشعرية الأخيرة التي صدرت لكل من درويش وأمل دنقل وعبدالمعطي حجازي وعبدالرزاق عبدالواحد وغيرهم...، فهؤلاء كانت العواصم العربية بالنسبة لهم مركز القومية العربية وجذوتها، وكانت قصائدهم تحمل حلماً جمعياً وليس فردياً، لكنه وللأسباب التي تم سوقها مسبقاً صارت تميل للمنفى وللمدن الغربية والأوروبية، فهي وإن كانت تذكر العواصم العربية بوصفها حاضنة للعروبة إلا أنها تبقيها في حدود الذاكرة، على أن السرد كان قد عبّر بشكل أكثر سِعة وتمدداً عن تحول النظرة الأدبية للعواصم العربية من كونها موئل الحلم العربي إلى كونها شاهد على ذلك الحلم.
التحول في بنية القصيدة العربية شكلاً ومضموناً كان كبيراً، لم تستوعبه الذات الشاعرة بسهولة، لكن ما نريد أن نلفت الانتباه له هنا هو أن العواصم العربية كمضمون شعري استنزفت من قبل الشعراء أنفسهم ذلك لأنهم قيدوها قبلاً في حدود الرمزية القومية، ولاحقاً وبفضل التقدم التكنولوجيي والتسارع في التواصل والاتصال بين البشر صار ينظر للعواصم العربية من نافذة الذاكرة، فالتقدم أصاب الذائقة الجديدة، وقدم تصورات مختلفة عن المكان وفضائه في الشعر، بحيث لم تعد الحدود الزمانية والمكانية ذاتها أمراً يصعب تجاوزه، فمسألة التلقي الرقمي بدّلت بعض القيم، وأزاحت أخرى نتيجة قدوم جيل من القراء لا يأبه للرموز الشعرية ومدلولاتها نتيجة إحلال دلالات جديدة متساوقة مع معطاه الجديد، وربما يكون هذا الجيل قد تجاوز تلك الرموز وجماليتها وحولها إلى دلالة مضادة تخدم واقعاً جديداً، فقد صار التعاطي مختلفاً مع القضية والحلم والعروبة، وفضاء المكان متعدداً ومتبدلاً على الدوام، وصارت القصيدة بلا شكل ثابت، تبحث عن أمكنة تجد فيها قراءها في وقت كان القراء هم من يبحثون عن مكانها.