مجلة شهرية - العدد (586)  | يوليو 2025 م- محرم 1447 هـ

العولمة في ميزان الفيلسوف طه عبدالرحمن

الحديث عن العولمة ليس من باب الهواية ولا من باب التعريف بها فقط، بل ذلك واجب على المفكرين والمثقفين والكتّاب لكي يغوصوا في الظاهرة من مختلف جوانبها وعدم عزلها عن ظاهرة أخرى هي ظاهرة الحداثة، وإلا سنكون مجرد كتَبة كلام إنشائي بعيد عن العمق الذي يفترض أن نكتشف خباياه. ويعد الفيلسوف طه عبدالرحمن من أبرز الفلاسفة من قارب موضوع العولمة من زوايا جد دقيقة ولصيقة بالإنسان ومركزيته كإنسان، ومشاركتنا هذه مساهمة وتقريب الموضوع للمتلقي ليعرف العولمة من زاوية دقيقة.
من المعلوم أن العولمة أكثر من أن تحصى في هذا الموضع، وهذه الكثرة دليل على أنها ظاهرة معقدة وغير محدد، حتى إنه لا وجود لتعريف مفصل يحيط بجميع مكوناتها ويقبله الدارسون لهذه الظاهرة الكونية. ويعرّفها طه: (العولمة هي تعقيل العالم بما يجعله يتحوّل إلى مجال واحد من العلاقات بين المجتمعات والأفراد عن طريق تحقيق سيطرات ثلاث: سيطرة الاقتصاد في حقل التنمية، وسيطرة التقنية في حقل العلم، وسيطرة الشبكة في حقل الاتصال).
من هذا التعريف يستخرج طه ثلاث نتائج وهي:
أ‌- أن العولمة ليست حالة قائمة بالعالم، وإنما فعلاً مؤثراً فيه بكُليته، وأن هذا الفعل الواسع ذو طبيعة تعقيلية، وأن هذا التعقيل عمل مستمر غير منته.
ب‌- أن هذا الفعل التعقيلي المستمر بالذات هو توحيد العلاقات داخل العالم، بحيث يصير العالم نطاقاً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً واحداً يؤلف بين أفراد البشرية كافة، وقد طاب لبعض الدارسين والهيئات أن يعبّروا عن ذلك بتشبيهات، فقالوا: (القرية الكونية) و(المدينة الكونية) و(المجتمع الكوني) و(الجوار الكوني)، ولم لا يقال (البيت الكوني) والعلاقات في هذا الإطار الموحّد ليست -كما يسبق إلى الفهم من لفظ (التوحيد) على شكل واحد، وإنما على أشكال مختلفة، ولا هي محصورة في مستوى واحد، وإنما هي متسعة لمستويات عدة، ولا هي باقية على حالة واحدة، وإنما متقلبة على الدوام، فسمة العلاقات في هذا النطاق العالمي الواحد هي التشابك بلا انتهاء والتزايد بلا انقطاع، فالوحدة المتوحدة للنطاق العالمي تجتمع إلى الكثرة المتكاثرة لعلاقاته.
ج- أن الوصول إلى هذا التشابك المتزايد في العلاقات مع حفظ وحدة مجالها يتم بواسطة تحصيل السيطرات الثلاث السالف ذكرها.
وقد قدم طه شرحاً مفصلاً لهذه السيطرات، إذ يرى أن كل واحدة من هذه السيطرات الثلاث تسهم في بناء المجال العلاقي الواحد للعالم، وكيف أن نمط العلاقات الذي تأتي به هذه السيطرة يؤثر في أخلاق المرتبطين بهذا النمط.
سيطرة الاقتصاد في حقل التنمية والإخلال بمبدأ التزكية: من البداهية القول إن الاقتصاد عامل حاسم في التنمية، وليس دونه بداهة القول الآخر، وهو أن الاقتصاد في الغرب تقلّب في أطوار رأسمالية مخصوصة، لكن الذي يقل عنهما بداهة هو أن يقال إن الفعل التعقيلي المميز للعولمة يسعى إلى إلباس كل أنواع التنمية لباس التنمية الاقتصادية الرأسمالية، أي إدخالها في سياق المبادلات التجارية الحرة، حتى إنه يجوز الكلام بهذا الصدد عن واقع (التسلط الاقتصادي).
وفي هذا المضمار، لا يمكن أن تكون العلاقات الكونية التي ينشئها هذا التسلط الاقتصادي في مجال التنمية إلا علاقات المصلحة المادية الخالصة، فإذا غدت الشركات الخارقة لحدود الأوطان هي التي تتكفل بالتنمية في هذه الأوطان، فإنها لا تعمل إلا بمبدأ السوق بلا قيد والتنافس بلا شرط والربح بلا حد في سياق عالمي لا وجود فيه لمجتمع مدني عالمي يمكن معاكسة هذا التسيب الاقتصادي.
هذا، فلا مكان في العلاقات الكونية الناتجة عن التعقيل الاقتصادي العولمي للاعتبارات المعنوية، بحيث تكون التنمية في نظام العولمة معارضة لكل تنمية تأخذ بمثل هذه الاعتبارات، أي لكل تنمية تكون من جنس ما يُطلق عليه اسم (التزكية).
مقتضى التزكية في فلسفة طه أنها تشترط في المنفعة أن يَصلُح بها حال الإنسان، سواء أكانت مادية أم معنوية، ولا صلاح لهذا الحال بغير زيادة في إنسانيته، بمعنى أخلاقيته، أما المنفعة المادية التي يمكن أن تلبي الحاجة ويحتمل أن تُفسد الخُلُق، فإن التزكية تصرفها صرفاً، فالتزكية، على خلاف التنمية، لا تطلب عموم المنافع، وإنما تطلب المصالح منها. من هنا، تكون الآفلة الخُلقية التي تتسبب فيها سيطرة الاقتصاد في مجال التنمية الناتجة عن التعقيل الأداتي العولمي هي بالذات الإخلال بمبدأ التزكية، وهو المبدأ الذي يوجب الجمع بين تنمية الموارد وتنمية الأخلاق.
سيطرة التقنية في مجال العلم والإخلال بمبدأ العمل: يعتبر طه التصور التقليدي للعلم والتقنية بات غير مقبول في سياق التعقيل العولمي من وجهين:
أحدهما، أن العلاقة بينهما أضحت علاقة تداخل قوي تأخذ التقنية بزمامه، فبعد أن كانت التقنية وسيلة في يد العلم، صار العلم وسيلة في يدها تُزوّده بآفاق جديدة في البحث تستنبطها من خصائصها الاستعمالية ونتائجها التحويلية، كما تُوجّهه الحاجيات الاستهلاكية التي تحددها السوق العالمية.
والوجه الثاني، أن المعرفة التقنية أخذت تتضمن، إلى جانب دراسة مختلف الآلات والأدوات، دراسة السياق الصناعي والاجتماعي والثقافي الذي يتم فيه تطبيقها، رابطة بين التقدم التقني وبين تطور البنيات الاجتماعية وتفاعلها مع بيئتها الطبيعية. ويستفاد من هذا أن المعرفة التقنية صارت تشتغل بما كان يختص العلم النظري الاشتغال به، مما زاد من قدرتها على التأثير فيه، تحديداً لشكله وتخطيطاً لمساره، وقد أدى هذا التأثير إلى أن تتسارع وتيرة الاكتشافات والاختراعات في مختلف مجالات المعرفة، حتى أصبح بعضها يثير المخاوف والمخاطر على مستقبل البشرية. طه هنا ينبه إلى خطورة سيطرة التقنية وغياب المعمل المقصدي الذي يستند إلى الأخلاق والحكمة التي تضبط سيطرة الجانب التقني كي لا تفرض الفتنة التقنية سيطرتها.
سيطرة الشبكة في حقل الاتصال والإخلال بمبدأ التواصل: حسب رأي طه أن إمعان النظر في طبيعة العلاقات الكونية التي ينشئها هذا الوضع الشبكي الكلي للاتصال، تبيّن لنا أن العلاقات بين رواد الشبكة الدولية ليست بالتداخل المنظور ولا بالتقارب المظنون، ولا هي بالأولى من جنس العلاقات التي تجمع بين (أهل القرية الواحدة) وبيان ذلك من وجهين:
أحدهما: أن الذي تنقله الشبكة ليس إلا مضمونات يتلقاها المتلقي أو يُلقي بها الملقي في شكل إشارات ضوئية متوالية نسميها (معلومات)، بحيث لا يحصل التفاعل بين هذين المصدرين الآدميين -الملقي والمتلقي- بقدر ما يحصل مع الآلات التي تنقلها.
والثاني، أن هذه المعلومات تسبح في بحر من الإعلانات، حتى اقترن اسم الإعلام باسم الإعلان. وأضحت المعلومة عبارة عن معلومة مُعلَنة. وهاتان الصفتان للمعلومة: الشكل الإشاري والسياق الإعلاني، تمنعان من قيام تواصل حقيقي بين ذوات (الشبكيين) على منوال تواصل بين ذوات المواطنين. فإذن أهل العولمة في علاقاتهم الاتصالية يشتغلون بتناقل المعلومات ولا يبالون بتجارب الذوات. فطه هنا يريد أن يكون التواصل تواصلاً حقيقياً الذات حاضرة فيه ولا مجرد رمز أو إشارة وهذا تغييب للإنسان من طرف العولمة. هكذا، وقعت العولمة في آفات خلقية ثلاث وهي:
أ- آفة الإخلال بمبدأ التزكية، وتقوم في تقديم المنفعة المادية على المصلحة المعنوية.
ب- آفة الإخلال بمبدأ العمل، وتقوم في تقديم الإجراء الآلي على العمل المقصدي.
ج- آفة الإخلال بمبدأ التواصل، وتقوم في تقديم المعلومة البعيدة على المعرفة القديمة.
ولا قدرة لنظام العولمة على دفع هذه الآفات بنفسه ومن داخله، لأنه لا يفرز إلا قيماً أخلاقية من جنسهن في حين يحتاج هذا الدفع إلى قيم أخلاقية من غير جنسه، ولا وجود لها إلا في الدين الإلهي. وهكذا، تكون مسؤولية المسلمين في زمن الحداثة أعظم من أي وقت مضى، لأنهم يملكون من أسباب التعقيل الموسّع القادر على التصدي لانحرافات العولمة ما لا يملكه غيرهم، فضلاً عن أن مسؤولية العولمة تقع عليهم أكثر، ولا خوف عليهم من زحفها ولا من هولها متى سارعوا إلى النهوض بهذه المسؤولية، فهمّة الإنسان أكبر من أن تقهرها قوة العولمة وعُدّة المسلم أقوى من أن تقهرها عظمة المسؤولية.
هكذا قدم الفيلسوف طه عبدالرحمن رؤيته الخاصة الدقيقة لظاهرة العولمة، بعيداً عن لغة التهويل وبعيداً عن لغة مدح الظاهرة، وهو صائب في ذلك لمكانته وتجربته ومعرفته الواسعة، لذلك في رأيي نحن مطالبون أن نسير على نفس النهج في مقاربة الكثير من الظواهر كي نقدم للقارئ مادة دقيقة تساهم في نشر وعي جمعي وبهذا نخدم وننهض بحضارتنا العربية والإسلامية، كي لا نكون مجرد متلق، خصوصاً في زمن وجود أقلام تعتبر ما جاء به الغرب هو الحل الوحيد للنهوض.

ذو صلة