بطريقة جميلة كانت تنسج خيوط الصوف البنية، ونحن نرمقها بتعجب، بأفواه فاغرة، لا نعلم من تكون، أو من أي مذهب، لكنها تجاورنا.
لكنتها البدوية، وعصابتها الكبيرة؛ تمنحها منظراً مهيباً.
نلعب مع أحفادها الذين يقاربوننا في السن، ولكن لم نرَ ابنها أبداً، ونعجب كثيراً من اسمه: (أم الزين)، تلك العجوز التي تحوك العباءة الصوف، وتتحدث دائماً عن (عباس)،
أين عباس؟ عرفنا أولاده، ولم نعرفه، كنا صغاراً، ولا نعلم بأي ظرف هو، لكنها تعلم
أنه مغيب في زنازن النظام. وأم الزين لا تتحدث عن تهمته، لأنها تخشى الحائط الذي يتلصص على الأفواه بآذانه المخفية عن أبصارها.
لم تفارقني صورتها أبداً، عندما تنزعج من صراخنا، وشغبنا أثناء اللعب، وتلاحقنا بما تلبسه برجلها، حتى تخرجنا إلى الشارع، ونحن نجمع بين الخوف والضحك الطفولي من تلك المطاردة الشيقة والمرعبة.
وفي أحد الصباحات الكئيبة، وجدتهم قد رحلوا، وبيتهم الذي كان مرتعاً للعبنا ومشاكستنا أصبح مهجوراً ولم يتبقَ فيه سوى حفرة الجومة وبقايا خيوط كانت تحوك فيها أم الزين.
وهنا بدأت أول خطوة في طريق الفراق الذي ما كنت أعرفه، لكن تقاسيمها الطيبة مازالت ترافقني، رغم الأربعين عاماً التي مرت على آخر رؤية لها، والموت الذي تلاقفها أخيراً.