من ذا الذي ينسى ذلك الاستهلال الصاعق في رواية (المسخ) لفرانز كافكا (1883 - 1924)؟
(ما إن أفاق غريغور سامسا، ذات صباح، من أحلامه المزعجة، حتى وجد نفسه وقد تحول في فراشه إلى حشرة ضخمة) بهذه الجملة، يفتتح كافكا عالماً غرائبياً، عالماً من الكوابيس اليقظة، حيث الواقع قناعٌ شاحبٌ لكابوسٍ دائم. لم يكن تحول غريغور استعارةً نفسيةً فحسب، بل حقيقةً جسدت بلا رحمة: الجسد البشري يُستبدل بالحشرة دون مقدمات، وكأن وجود الإنسان نفسه مسألة قابلة للنفي والانقلاب.
هذا التحول، أو (الانمساخ) الذي فسره البعض على أنه (حلم)، كما حدث في الترجمة الفرنسية الأولى، والتي امتدت لعدة عقود؛ كان تحريفاً في فهم النص الأصلي، ما أفقد العمل بعده الكابوسي الواقعي ودهشته الوجودية، كما أشار التونسي، آدم فتحي، مترجم، (اليوميات) لبودلير، و(المياه كلها بلون الغرق) لإميل سيوران. كل ذلك يُبرز أهمية الترجمة في تشكيل إدراك القارئ للأدب العالمي. عوالم كافكا ليست حلمية، بل كوابيس يقظة، حتى في (رسائل إلى ميلينا)، حيث يكتب بلغة متقشفة، لكنها تنضح ببلاغة خافتة تشبه رسائل رامبو إلى أخته إيزابيل، كلمات قليلة تحمل أقصى درجات التوتر العاطفي والفكري. هنا، كافكا لا يخاطب محبوبته فحسب، بل يواجه قدره، ويؤسس لأسلوب كتابي يتقاطع فيه الشعر بالسيرة والاعتراف بمأساتنا الإنسانية.
المفارقة الكبرى في حياة كافكا أنه أوصى صديقه ماكس برود (1884 - 1968) بإحراق كل رسائله ومخطوطاته بعد وفاته. لكن برود، مخالفاً وصيته، نشر أعماله، مُهدياً العالم أدباً غيّر مسار السرد الحديث. هكذا، أنجز كافكا أعظم ما كُتب في القرن العشرين، دون أن يدرك أن (الحشرة) ستظل حيةً فينا، رمزاً للخوف والاغتراب والخذلان.
أثر كافكا الخالد
لم يقتصر أثر كافكا على الأدب الألماني، بل امتد تأثيره إلى الأدب العالمي بشكلٍ واسع. فأسلوبه المتميز، الذي يجمع بين الواقعية والرمزية، ألهم أجيالاً من الكتاب والروائيين. يُعتبر كافكا من أهم رواد الأدب الوجودي، فأعماله تعكس قلق الإنسان المعاصر، شعوره بالغربة والعجز في مواجهة بيروقراطية النظام وقوانينه الجامدة.
وصف النقاد أسلوب صاحب (المحاكمة) بأنه (كابوسي)، (غرائبي)، بيد أن تينك الخصيصتين، هما، ما جعل أعماله مُثيرةً للاهتمام، مُحفزةً على التأمل والتفكير. فسرده لا يقدم إجابات جاهزة، بل يثير أسئلةً جوهريةً حول معنى الوجود، ومكان الإنسان في الكون، وعلاقته بالآخرين.
حتى اليوم، تُدرس أعمال صاحب (أمريكا) في الجامعات حول العالم، وتُترجم إلى العديد من اللغات. أصبح اسمه مرادفاً للقلق الوجودي، والاغتراب، والبحث عن المعنى في عالمٍ يبدو بلا معنى. شخصياته، من غريغور سامسا، في (المسخ) إلى جوزيف ك في (المحاكمة)؛ أصبحت رموزاً أدبيةً تُجسد معاناة الإنسان في مواجهة القوى الغامضة التي تحكم حياته.
قراءة أعمال مبدع (سور الصين العظيم) تمثل رحلة إلى أعماق الذات، رحلة إلى مواجهة الخوف والقلق والاغتراب. إنها دعوةٌ للتأمل في معنى الحياة، وفي مسؤوليتنا نحو أنفسنا ونحو الآخرين. فهل نستطيع، نحن المتلقين، أن نفيق ذات صباح وقد تحوّلنا، من فرط القراءة، إلى كائنات (كافكاوية) لا تعرف النوم من اليقظة؟ هذا السؤال يبقى معلقاً، مُثيراً للتفكير والرعب في آن واحد.