خمسٌ وستُونَ.. في أجفان إعصارِ
أما سئمتَ ارتحالاً أيّها الساري؟
أما مللتَ من الأسفارِ.. ما هدأت
إلا وألقتك في وعثاءِ أسفار؟
أما تَعِبتَ من الأعداءِ.. مَا برحوا
يحاورونكَ بالكبريتِ والنارِ
والصحبُ؟ أين رفاقُ العمرِ؟ هل بَقِيَتْ
سوى ثُمالةِ أيامٍ.. وتذكارِ
واحداً من أصحابه المقربين أو ما يسميهم نصر الله (حرافيشه)، هو الأديب الكبير والإعلامي العريق الأستاذ محمد رضا نصر الله يُشعل تقنية الفلاش باك في كتابه (أصوات في الأدب والفكر والاجتماع) مُضيئاً على علاقته مع الشاعر والدبلوماسي الراحل غازي القصيبي بأربعة مقالات متتالية (البيروقراطية القصيبية)، (حياته في الإدارة)، (غازي القصيبي والإبداع المركب)، و(العشاء الأخير) فكأن القارئ قِبالة سردية قصصية كثيفة وجزلة ومؤثرة، تبدأ بالحديث عن مزايا الشخصية القصيبية وعلاماتها الفارقة في سياق يصعب أن يكون مرناً آنذاك باعتباره من (البيروقراطيون المتنورون) كما يطلق عليه نصرالله، الذي يعزو أسرارها لعوامل عدة، أولها: معاملة د. جون بيرتون، أستاذه بجامعة لندن الذي أشرف على أطروحته في الدكتوراه، الأمر الذي عاد عليه بالثقة. ثانياً: عمله الإداري كمدير عام لسكة الحديد. ثالثاً: الظروف الأسرية والنفسية التي عاشها الشاعر إثر رحيل والدته في السنة الأولى من عمره وتنقلاته بين الأحساء والبحرين.
وتوالياً، يسحب نصر الله حبال الذاكرة لبواكير علاقته بالقصيبي عندما كان طالباً بكلية الآداب بجامعة الرياض آنذاك، بينما كان القصيبي محط عناية الناس عامة والطلبة خاصة لاسيما وحيوية الأكاديمي التي جاءت على غير المعتاد، إضافة لمقالاته ولقاءاته وشعره العذب المتجدد.
وعلى إثر تنامي التواصل بينهما، يُشير
حفظ نصر الله لدور القصيبي الإيجابي والداعم لإنشاء ناد أدبي في المنطقة الشرقية ليكون على غرار ما تمتلكه مدينتا جدة والرياض، جاء ذلك بعد زيارة نصر الله له عقب توليه إدارة السكك الحديدية. أما عن الرواية السعودية فقد شكلت (شقة الحرية) و(العصفورية) منعطفاً تحولياً في الأدب السعودي، ومؤثراً بصورة خاصة في مجايليه ممن نأت بهم السبل وحلقت بهم الأقدار لمدن مهمة ومركزية كالقاهرة وبيروت والولايات المتحدة الأمريكية. لتفتح تلك الأعمال البوابة السردية الناهضة بالقيمة والأهمية والإنسانية. واللافت في هذا الجزء النقدي في الكتاب حول أعمال الراحل أنه يكشف عن حصافة نقدية ومهارة أدبية عالية يقبض عليها نصر الله، الأديب والمثقف المخضرم لتُضيء سيرته أينما وكيفما حلت.
وتحت عنوان ختامي مؤثر (العشاء الأخير) يسرد نصر الله الحلقات الأخيرة بصورة دقيقة ورهيفة، فالشاعر لم ينفك عن القراءة والكتابة لآخر أيامه، بل يأتي لأصحابه حاملاً رواية (زهرة الخشخاش) لخيري شلبي، في الوقت الذي طلب من شريف عمر حسن، المستشار القانوني إحضار كتاب (الأمثال العامية) للمحقق أحمد باشا تيمور، ليفتش فيه عن المثل الشعبي (دخول الحمام مش زي خروجه)! هل قصد إسقاط المثل على دخول مستشفى الملك فيصل التخصصي أم على دخول الحياة والخروج منها؟! وبرفقة الأصدقاء (نصر الله، شريف، عبدالرحمن السدحان أمين عام مجلس الوزراء) يتناول الجميع العشاء الأخير في حالة استثنائية تغيب فيها مداعبات ومسامرات القصيبي.
تمضي الأيام سريعاً، لتنقل جريدة الحياة خبر انتقال الوزير إلى مايو كلينك في منيسوتا، فيُعبر نصر الله: (تدفقت اتصالاتي عبر جواله شلالاً مضطرماً من الأشواق الحارة والأسئلة المستفزة دون جواب).. إلا أن الحياة لازالت قائمة، عاد التواصل بينهما بشكل خفيض حتى بلغ نصر الله الخبر اليقين من الأستاذ خالد العيسى نائب الديوان الملكي بأن القصيبي يعاني من سرطان متقدم في المعدة لا يُرجى منه برء! على إثر ذلك انخفضت قدرته على القراءة، وأصبح الزمن يطارده لينجز أعماله بأسرع ما يمكن، ولأن من شيمه الوفاء وقد وعد عيسى أحوش صاحب مطبعة بيسان ببيروت بأن يطبع عنده أحد أعماله، طلب من نصر الله إرسال (الزهايمر) الذي تم اختصاره لأقصوصة عوضاً عما خطط له الوزير بأن يكون رواية من فصول، ليصدر يوم وفاته!
تدفق المعزون بمجلس العزاء بالرياض كالشلالات الجارية، ليُسر د. أنور الجبرتي لصديقه نصر الله: هل جرى مثل ما أراه في مجلس عزاء آخر؟ فقراء أثرياء.. فراشون ووزراء.. مثقفون وعلماء.. أبناء.. أقارب.. أصدقاء يعزون بعضهم البعض! غير أن حالهم يصفه نصر الله مستعيناً بالمتنبي:
وما صبابة مُشتاق على أملِ
من اللقاء كمُشتاق بلا أملِ