مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

نخلة أبي

لم أسمع أبي يغني وهو يزرع شجرة الليمون هذه في حديقتنا، لم أره يترنم كما يفعل الآخرون بحلو الكلمات أو بجمال اللحن، كان فقط مشمراً ذراعيه باسقاً كنخلة شماء لها قدمان تتحرك بهما فوق النجيلة وبين الأشجار في يسر، رابطاً ذيل جلبابه حول وسطه حتى لا يعوق حركته، مكتفياً بالسروال الواسع الذي يصل إلى كعبيه وهو يتنقل من بقعة إلى أخرى مزيلاً الحشائش ومشذباً الفروع، وهو يطلق من عينيه المتسعتين حمامات بيضاء تطوف حول الأشجار مغردة بأرق الألحان.
لم تكن شجرة الليمون هذه فقط التي رعاها أبي واهتم بزراعتها، أشجار الحديقة كلها كانت نتاج جهده وعرقه الذي كانت تتألق حباته بلمعة لا تخطئها عين على جبهته، هابطة في تراخ حالم على وجهه ورقبته، وشامخة على يديه العاريتين حتى الرسغ، يداه تلك اللتان كانتا كلما نظرت إليهما أرى تفرعات خضراء مرسومة فيهما تبدو لي نخلة فروعها تمتد على براح جسده.
نخلة أبي كان يرويها العرق المعتلي ساعديه، وكانت تتميز بقدرتها على الحركة تنفرد وتنطوي كيف تشاء، تعطي مثل بقية النخيل لكن ثمارها ليست بتمر.
لم تكن شجرة الليمون وحدها التي رعاها أبي لكنها كانت بالنسبة لي أهم ما في حديقتنا لأنه أهداها لي بمناسبة نجاحي، حدق في وجهي يومها باسماً:
- تعال يا نور.
ومد يده العملاقة فاحتوى راحة يدي، مضى بي إلى فسيلة صغيرة في ركن صغير بآخر الحديقة، يومها رأيت عينيه تطلقان ألق نظراتهما وقد انبسطت في براحهما بسمته، بدت النظرات في براح المكان نخلتان باسقتا الفروع تظللاني برفق ومحبة، وصوته يتهادى مع دفقات نسيم ناعمة:
- هذه شجرتك، عليك من الآن أن ترعاها.
لم تكن فرحتي بشجرتي الجديدة أقل من فرحتي بالنجاح، رباط ما ربط بيننا فجعلني أنتمي إليها كما انتمت هي إلي فأقرب منها مهتماً بأمرها، أسأل عن مواعيد ريها وكيف ومتى يمكنني تشذيبها، ورغم الأشواك المنتشرة على فروعها لم أجفل منها، فهي في كل الأحوال شجرتي.
وهي أيضاً لم تكن مثل بقية الأشجار تلتزم الصمت أو تميل إلى الهدوء والسكينة خصوصاً وهي تراني أقف أمامها، بل كانت شقية لا تهدأ حركتها، أشواكها الإبرية كثيراً ما كانت تتصيدني، أتألم فتضحك، وإذا ابتعدت أرى صفرة ثمارها تعلو ضحكتها معتذرة، أو خضرة أوراقها يرتفع نداؤها مراوداً فأعود من جديد، أنزع الحشائش من حولها، أحاول أن أشذب فروعها المترامية محاذراً من أشواكها، أدقق النظر في حباتها الصفراء الناعمة الشامخة فوق فروعها كالنجوم التي تضوي على البعد في دجى الظلمات، وأسعد كل السعادة حينما تطلب مني أمي إحداها، أهرول نحوها، أقترب منها، أدور حولها، تعلو ضحكاتها فتملأ من حولي المكان مرحاً وتصبغ لونه بلون الفرحة الصفراء الناصعة أو الخضراء الحالمة وقد تقبل العصافير بشدو يملأ الفضاء حولنا، تدور دورتها في الحديقة تشاكس شجرة وتمازح أخرى فأشعر حينها بأنني قد صرت رجلاً كبيراً تتهلل الحديقة لرؤياه كما تفعل مع أبي، لحظتها كنت أحدق في ذراعي باحثاً عن نخلة تتخلل فروعها خلاياي وأوردتي مثله تماماً.

ذو صلة