في الوقت الذي تواجه فيه المدن حالة من الجفاف بينها وبين شعرائها، وكأن زمن الشعر يولي ويمضي لمستقبل مختلف في اتجاهاته وأغراضه واهتماماته، وأن الشعر العربي الحديث لم يعد يهتم كما يجب بجماليات المدن وفضاءاتها كما كان في السابق، ولعل أهم الأسباب تعود إلى تغيّر زاوية الرؤية عند الشاعر والناقد، وغدا لكل واحد اهتماماته ومجتمعه الافتراضي ما غيّب المدينة وغدا الفضاء الافتراضي هو الحاضر يعيشه لحظة بلحظة، ولما آثرت المجلة العربية فتح ملف العواصم العربية التي حضرت في الشعر العربي في الماضي وغابت عنه في الحاضر، وبعضها كانت مدينة بلا قلب، وبعضها كانت حبالاً من نار وبعضها كانت مركز الحياة والجمال، لا أريد أن أكون متشائماً لحال الشعر العربي الحديث، ولا لحالة الشعراء الذين غابوا بفعل التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية والانفتاح والعولمة والعالم الافتراضي، وغدا الشعر في متاهات الحاضر، وأحياناً تراه بلا هوية وبلا التزام أو تأثير، وكأنه يتشظى في عوالم الاغتراب والاحتراب والانفعال، ما يعطي حالة من اللاوزن واللاوعي الذي يتخطفه المشهد من هنا أو هناك.
إن غياب اهتمام الشعراء في العصر الحديث بفضاءات المدينة مرده أسباب موضوعية أخرى من مثل الحنين إلى الطبيعة والرغبة في التحرر من فضاءات المدينة وزحامها إلى فضاء الريف بجمالياته وهدوئه، وبات الكثير من الشعراء يميلون إلى الاندغام بالطبيعة والريف والطبيعة باعتبارهما ملاذاً للصفاء والجمال والإبداع، في حين تشكل المدينة المعاصرة مكاناً للازدحام والصخب والضوضاء، وتبدو أقل رومانسية وأقل استلهاماً للشعراء، إضافة إلى التحديات التقنية في تصوير المدينة شعرياً، إذ غالباً ما تكون فضاءاتها معقدة ومتنوعة ما يشكل تصويرها شعرياً تحدياً شعورياً صعباً، خصوصاً أن الكتابة عن المدينة تحتاج لغة شعرية مكثفة ومؤثرة وصوراً شعرية خلابة مختلفة في إيقاعاتها ونغماتها وأحاسيسها، يضاف إلى ذلك النظرة السلبية للمدينة كمكان يتسم بالفوضى والازدحام، والاستلاب، والتغريب والضياع، ويمكن الإشارة أيضاً إلى التغير الذي طرأ على دور الشعر في ظل تنافس الأجناس الأدبية الأخرى وتطورها، من مثل القصة القصيرة بأنواعها والرواية وفن المقالة والسينما، وغدا التعبير عن المدينة يميل إلى هذه الأجناس على حساب الشعر الذي اتخذ منحى أكثر فلسفية وذاتية وتأملية.
وهذا السؤال عن غياب العواصم العربية عن الشعر المعاصر يعيدنا إلى عبق ذلك الشعر الذي كان يعيد لجماليات المكان، وفضاءات المدينة الروح والحياة، وكانت مدينة الشاعر مفعمة بالحب والجذل والثقافة، إنها المدينة التي ألهمت الشعراء والكتاب غناء وبوحاً وكتابة، وهنا أعود إلى زمن أثير انهالت فيه أمامي قصائد تموج كالبحر في مده وجزره، وشعراء كانوا يعيشون أنفاس مدنهم زهواً وزهوراً وأريجاً، وبرزت موقفهم من المدينة في أحضان الرومانسية التي كانت تنطلق من مسلمة فردية ترفض الأطر المادية التي تحيط بالمدينة، وتكتفي بالعودة إلى الطبيعة الحية والصامتة، ولذلك عبّر الشعراء عن موقفهم من المدينة عبر اتجاهين مختلفين، القبول والرفض، أو الرضا والسخط، ولنتذكر قصيدة جيكور والمدينة لبدر شاكر السياب حين وصف دروب المدينة بحبال من النار تخنق أنفاسه:
وتلتف حولي دروب المدينة
حبالاً من الطين يمضغن قلبي
ويعطين، عن حجرة فيه، طينة
حبالاً من الطين يجلدن عُري الحقول الحزينة
ويحرقن جيكور في قاع روحي
ويزرعن فيها رماد الضغينة
ويرفض صلاح عبدالصبور هذا الموقف من المدينة الذي وجد نفسه في أمس الحاجة إليها:
أهواك يا مدينتي
أهواك رغم أنني أنكرتُ في رحابك
وأن طير الأليف طار عني
وأنني أعود، لا مأوى، ولا ملتجأ
أعود كي أشرد في أبوابك
أعود كي أشرب من عذابك
وحين نقرأ تجارب الشعراء ونعاين مواقفهم وأشعارهم تجد عندهم تجارب مختارة عند الشعراء عبدالمنعم الرفاعي وحسن بكر العزازي وحيدر محمود وعبدالله رضوان وغيرهم من الشعراء الذين توزعوا على خريطة مدينة عمان في أزمان متباينة من عمر المدينة، وكان بين الأمير عبدالله الأول بن الحسين وهؤلاء الشعراء وبعض الشعراء العرب مساجلات شعرية حول أحداث النهضة الأدبية التي شهدتها عمان في تلك الفترة، خصوصاً مع حمزة العربي وعرار وعبد المنعم الرفاعي ومحمد علي الحوباني وحسني زيد الكيلاني والمختار الشنقيطي ومحمد الشريقي وشكري شعشاعة ونديم الملاح وتيسير ظبيان وشجاع الأسد وناصر الدين الأسد وإبراهيم المبيضين ومحمد نهار الرفاعي وراتب دروزة وتوفيق الحناوي ومصطفى السكران وغيرهم، ولم تتوقف رحلة الشعراء مع مدينتهم الأثيرة، إذ كانت حاضرة في وجدانياتهم وأشعارهم، وكانت معينهم الذي لا ينضب، ووهجهم ومادتهم يستحضرونها من واقعها وظلالها وحركتها ومتغيراتها العمرانية والحضارية ومواقفها السياسية ودورها الثقافي، وهذا الأحوص الأنصاري تشكل عمان لوحة ذكرياته وشوقه:
أقول بعمان، وهل طربي بهِ
إلى أهلِ سلعٍ إن تَشَوّقتُ نافعُ
فإن الغريبَ الدار مما يشُوقه
نسيمُ الرياح والبُروق اللّوامعُ
وورد ذكر عمان في شعر الفرزدق في قصيدتين يمدح فيهما سليمان بن عبدالملك يعبر فيهما عن حبه العميق للخليفة:
ليبلغن ملء الأرض نوراً ورحمة
وعدلاً وغيث المعبرات القوائم
وكان على ما بين عمان واقفاً
إلى الصين قد ألقوا له بالخزائم
وزار عمر بن أبي ربيعة عمان وقد أحبها حباً جماً وقال فيها:
وبعمان طاف منعها خيال
قلت أهلاً بطيفها المنُتاب
هجرته وقربته بوعد
وتجنٍّ بهجرتي واجتنابي
غير أنّ عرار وظف عمان توظيفاً ينبع من رؤية فكرية واعية ترى المكان معادلاً موضوعياً للوطن، ورمزاً أساسياً للبقاء والخلود وتحقيق الوحدة العربية، ذلك أن عمان تمثل عمقاً خاصاً لأمتها:
خلت عمان والمزار بعيد
كوكب النور في سماء العواصم
نام سمارها ونام الندامى
والأغاريد ساهرات قوائم
هذه نشوة السرور وهذي
عزة المُلك في جلال المراسم
*عميد كلية الآداب، الجامعة الأردنية، وأستاذ النقد والأدب الحديث.