مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

التخوم

بعيداً في أراضي البرِّ تلتفُ أجَمَةُ أشجار كانت أبداً موئِلاً لجامعي الفطرِ والهاربينَ من المدينة. أشجارُ أثلٍ قديمةٌ تكتنفُ آباراً ناضبةً وطواميرَ مردومةً وحيّاتٍ.
وفي أيامِنا، أيامِ العقاربِ، وقتَ هجرِ البيتِ والمرأةِ، عندما تخفّ وطأةُ البردِ وينطلقُ الرعدُ، كنا نلزمُ البرّيّةَ لجني الكمأِ، وقد ألفتْ بيننا الوحشةُ، فما اجتمعنا على شيء ونحن نمضي وسطَ البراري.
ترافَقْنا نحنُ الكمّائين، وقد ألهبتْنا بوادرُ الربيعِ فلا حدَّ لأطماعِنا، وكنا نتسابق إلى أراضي المنِّ مثيرين سحابةَ غبارٍ، مع أننا اختلفنا في أولِها على الاتجاهِ الذي نقصدُه. كنّا زمرةً ولا يحضرني العددُ أو ملامحُ الوجوه، وكانت مجاميعُ أخرُ ترودُ البرَّ. ارتأى البعضُ الذهابَ جنوباً، حيث الأرضُ الوِسعَةُ، لجمعِ الفطرِ، ثم الالتفافَ جهةِ المغيب فنبلغ كما قالوا التخومَ البكرَ، لكن البقيَّةَ فضَّلوا الإيغالَ داخلَ أجمةِ الأثلِ.
وفي البرّيَّةِ، عند أطرافِ البلداتِ، لمحنا أشباحَ جامعي الحطبِ الذين نستصغرُ وجودَهم وضياءَ بشرِهم الوادعة، متسوّلي الأرضِ الدانية. احتوتنا أحراج نسجَتها غصونُ أشجارِ الأثل، جذوعٌ ملتويةٌ، مغبرّةٌ، وفي حين تزوَّدَ الجميعُ بمُدىً وعصي تسلح أحدُنا ببندقية. كان رجلاً طويلاً يتبعهُ خيطُ دخانِ سيجارتهِ، وحسبما شاعَ فهو قاتلُ ابنتهِ الفتيِّة، في أعوامهِ البعيدة، وقد هام على وجههِ، وكان ثمةَ شخص أعرج لم تهدأ قهقهاتُه، يلاحقُهُ متهكِّماً من وساوسهِ التي تشتدُّ في ليالي الربيعِ.
نسمعُه يقول: ما لكَ تئنُّ وتنوحُ كالمرأة ولا تخلِّي أحداً ينام؟ هاها.. الندم؟ من يدري.. ربما تتمنى لو تحرقكَ صاعقةٌ!
لم يردْ الطويل، يتحمَّل الجميعُ مزاحَ الأعرجِ فهو يعرفُ السبيلَ إلى أراضي الكمأ، سرُّ حناياه الذي لا يدركهُ إلا قلَّةٌ نادراً ما تحظى المجاميعُ بأمثالهم، فكنا نتبعُه بينَ الشجيراتِ والكثبانِ، ومع أنني أنسْتُ لمزاحه، لكني لم أحفلْ بصنيعِ الطويل، فهو يحملُ سلاحاً نارياً، ومن يعلمُ ما تخفي الأقدار؟
كنت أتلفّتُ، مؤكداً على كلامي، لمن ظننتُهم يُصغون إلي، وإن كان قاتلاً، فهو حامينا. أقول لكم حتى لو كان آثما.. أترون؟ لو كانت ضحيّتُه بريئة كما تزعمون. أقول.. فنحن هنا بلا نواميسَ ولا يحقّ لنا إدانتهُ.
لكنهم كانوا ظلالاً تهمُّ من حولي، وكما أن الربيعَ يعيدُ رسمَ ملامحِ البريّةِ بمخلبِه، ينتابني هاجسٌ بأن الصدى يرجّعُ صوتي: لا ناموسَ هناااا. كلما أوغلت بعيداً تحرَّرت. كنت أزجي مخاوفي، مدفوعاً بطمعي الأعمى لبلوغِ البراري النائيةِ، المخبوءةِ، وراء قوسِ قزحٍ، مختلطاً بالظلال، وسطَ أشباحٍ تقلبُ الترابَ بالعصي والسكاكينِ، مثيرةً الهشيمَ والجذورَ والنمالَ، همهماتٌ تتراكضُ، أطيافٌ تجثو وتنهضُ، صيحاتُ الفوز، الرملُ ينثالُ عن فطرةٍ طريّةٍ ناصعةٍ تثقلُ اليد.. شتائمُ وعراكٌ.. دمٌ.. برقٌ ودمٌ تتشرَبهُ الأرضُ.
وكنا نمرُّ بأشجارٍ متشابهةٍ وقفارٍ، وفي لحظةٍ أشعرُ بالوحدةِ فمَنْ أظنُّه رفيقَ دربٍ ما يفتأُ أن يفارقني، وهو يسلكُ سبيلا آخرَ، تخدشُ الغصونُ كيسَه، ويحاذيني آخرُ يسأل عما جنيتُ وكأنه ينتوي سلبي. يرمقُ كيسيَ بحسدٍ فأتهيأ للعراكِ، ثم يمضي فلا أتذكرُه، وأخالطُ غرباءَ، حتى يسرقَ خطاي منعرجٌ بين طرفتين وارفتين، وأنفردُ بنفسي، مصغياً لصريرِ الأرضِ السبِخة تحت قدمي، ويهزُّ أعماقيَ دويُّ الرعدِ.
أتطلعُ إلى السماءِ التي تشعُّ سحبُها نوراً ورديَّا تحيطهُ ضروعٌ ثقيلةٌ قتامٌ، وأتوقفُ إذ تتناهى إليّ همساتُ.. حفيف الريح.. وتتجمعُ رغباتُ حياتي وهواجسُها عندما ألمحُ أشباحاً وناراً، وأشمُّ رائحةَ فطرةٍ مدخّنةٍ فأشعر بالجوعِ والظمأ، لكني لا أجرؤُ على الدنوِ من مهبِ الرائحةِ، وابدأُ بالبحثِ حتى أعاودَ اللقاءَ برفاقي، الطويلِ المسلّحِ والأعرجِ الممازحِ، القصيرِ معتمرِ غطاءَ الصوفِ، آخرينَ بالكوفياتِ والأثوابِ الرماديةِ، من كفّوا عن الكلام وساروا خافضي الرؤوسِ. مَنْ هؤلاء؟ أَهمْ رَبْعَي؟ إذ ينغزني أحدُهم بعصاهُ ما أن أهمَّ بالانحناءِ على فطرةٍ نَهدَتْ، وتذرُّ الريحُ التراب في عيوني فأتعثرُ وأهوي على وجهي.
متروكاً بين الجذورِ الناتئةِ، سأكونُ فريسةً للضواري، للنمالِ والعقاربِ، للصوصِ، لكنني أرتاح لوسادةِ الرمل وأغمضُ عينيَّ.
يعميني لهبٌ لافحٌ فلا أكادُ أتبيَّنَ وجهَهُ من وراءِ قناعِ اللحام.. الأبُ الذي كان يغيظهُ أن أبدّدَ حياتي بمعاشرةِ أبناءِ البراري، جامعيِ الفطر الكسالى.. وهو يطرقُ القضبانَ الملتويةَ.. أبناءَ بيئة تشجّعُ على الخمولِ والجشعِ والاتكالِ.. يقول.. من يشكِّلُ العالم بيديه ليس لديه الوقتُ لمشاركة الحيواناتِ ما ترعى.. كسالى.. قساة..
ويهمسُ لسانُ شغفي.. هيا انهضْ، امض، لا تستحِ من فطرتِك، لا سلطانَ لك على نفسِك فالبسيطة تستعبدك، تعدك، تباركك، وتوهمكَ، تشكّل صورتك وتفتّتها. تخطفك أوقات جَني الكمأ، الأيامُ التي تستأثرُ بروحِك، فرحُ هواك وشهوتِك، ويفورُ دمُك بالرغبةِ، ولا تكفّ إلا بعدَ أن تغمسَ أصابعَك في دسمِ الربيعِ.
مع غروبِ النهار كانت الأنظارُ تُسرع في مسْحِ قشرةِ الأرضِ، تقودُها شهوةُ الاغتنامِ، ففي مكانٍ ما اكتتمت الأرضُ فطرةً مغبرّةً، شذيّةً، حتى يخيّمَ الظلامُ وتتشبّع السماء بسحبِ الربيعِ وبوادرِ الزوابعِ الترابية التي تخالطُها هبّاتُ رذاذٍ.
وفي الليالي عندما نتجه نحوَ الأرضِ البكرِ، جنّةِ الكمأ، كان الربيعُ يتراكضُ فينا ومن حولِنا، فهو غيبوبةُ أهواءٍ ورغباتٍ، وأنه لا يدركُ أحياناً، فأقولُ لقناعهِ الناري.. أتدرك المغزى يا أبي؟ ما تراهُ وتتحسّسُه ليس إلا ظلالُ الربيع، في دكانتِك، مصهرِك القديمِ، مدينتِك القاتمة. لا.. ليس الربيعَ الذي وهبتُ نفسي لمتعِهِ، بهجتِه وأجنحتِه المضيئةِ.
كأنما تلفّني سورةُ هشيمٍ وغبارٍ، رعودٌ تهدرُ عند الأفقِ متراكضةً بضياءِ غيومٍ، مطلقةً رنيناً منذراً يمزّق أطرافَ السماءِ باللهبِ.
القلبُ طمّاعٌ والسماءُ تحترقُ ومَنْ يتكمؤون لا يعرفونَ طعمَ النومِ، وينذرنا أحدٌ ما أين اكمأت الأرض، اغبرَّت بالفطرِ وتفطّرَتْ عن نكعاتٍ بيضٍ، فيخالُ إليّ أنني أشمَّ رائحتَها، فأسرِعُ الخطى، كأن قلبي يتشهَّى مذاقَ الغدرِ، الدمِ، الألم.
أحاولُ الانفصالَ موغلاً بين أشجارِ الحرجِ على أمل بلوغِ الأرضِ الوِسعَةِ ونيلِ كمأتي الأولى، لكن الأعرجَ يتبعني وبأثرهِ الطويلُ وخيطُ الآخرين. كنا أطيافاً غبَّرتْنا زخّاتُ المطرِ، دونَ إغفالِ إرشاداتِ الأعرج، وأحسّه في أعقابي يلومُ عُجالتي وينذرُنا.. فأين ينمو الكمأُ يا ناس؟ أليس في الأرضِ التي ما داسَها بشر؟ البشرُ نجس يا طويلُ.. أينما ولَّى آذى البريّةَ.
كان عواءُ الوحوشِ يُرجّفُ فؤادي، بينما تخدش أغصانُ الطرفاءِ ثوبي، إلا أن ذلك ليس مهماً بقدرِ مخاوفنا التي تتعاظمُ إزاءَ خسفِ الأرض، طواميرَ، آباراً ناضِبةً، وفي ضياءِ البرقِ نستدلُ عليها، نلمحُ ظلامَها ونتجنّبُها، كما لم يفعلْ الأعرجُ، إذ غفلَ لحظة فزلّتْ قدمهُ وابتلعتهُ خسفةٌ غائرةٌ. سمعنا صرختَه فخِلنا أنَّ البرقَ صعقَهُ، لكن ما نفعُ صياحِه في ظلِّ هياجِ الربيع؟ عندما استدرنا كنا بالكاد نسمعهُ وكأنه يقهقهُ أو ينوحُ في باطن الأرضِ، بينما تجاوبَ صياحُ بعضَنا.
كانت حفرةً مظلمةً تغورُ في الأرضِ وينثالُ رملُها، هاويةً لا قرارَ لها، شرِبتْ سيولَ المطرِ فما ارتوتْ، ولم نرَ الأعرجَ لكننا سمعنا أنينَهُ، إنهُ دليلُنا إلى حيثُ اللاشيءَ، مضحكُنا وسرُّنا المرغوبُ، وقد أردنا إغاثتَه فتلبّثْنا وتصايحْنا وتململْنا عند حافةِ الخسفةِ، على أن أنظارَنا كانت ترنو بعيداً إلى أطرافِ السماءِ المشتعلةِ، نحوَ الأراضي النائيةِ، ثم وثبتْ قلوبُنا عندما أنشقَّ الفجرُ، نديَّاً، وهاجتْ الذباباتُ فلا رغبةَ لنا في هَدْرِ الوقتِ ومنحِ غنيمتَنا للآخرينَ، هناك تحتَ سُحُبِ الربيع المضيئةِ بالمنِّ السماوي، فما أن خفَتَ أنينُ الأعرجِ حتى انصرفنا عن المكانِ واحداً تلو الآخرِ.
تبعتُه، وأنا أبصرُ طيفَه يسيرُ وحده، صامتاً، تحتَ قوسِ قزحٍ، في روضةٍ يلفحُني شذاها، صمتُها، نسيمُها، والربيعُ في كماله، إذ أمطرتْ ليلاً، بينما نمتْ ديدانُ الربيعِ ملتصقةً بالحجارةِ والجذوعِ، شرانقُها ذهبيةٌ، ومع تقدّمِ النهار انشقّتْ وطارتْ منها الفراشاتُ.

ذو صلة