مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

البشر والإنسان.. ما وجه العلاقة بينهما؟

تطرق النص القرآني إلى ثنائية البشر والإنسان، وقد وردت هذه الثنائية متصلة في آية واحدة، وتكررت منقطعة في كثير من السور والآيات المكية والمدنية. وردت متصلة في سياق قصة مريم، وتحددت في قوله تعالى: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (سورة مريم، الآية 26).
وعلى مستوى اللغة، فقد عرفت هذه الثنائية لدى المتقدمين، وحضرت في مبحث الترادف وبيان الفروق اللغوية، ومثلت شاهداً لغوياً إلى جانب شواهد أخرى استند إليها المنكرون لمسألة الترادف اللغوي. وقد اتخذ منها النحوي الكوفي البغدادي أحمد بن يحيى الشيباني (توفي:291 هـ) المعروف بثعلب النحوي؛ شاهداً على إنكار المترادفات، زاعماً أن كل ما يظن من المترادفات فهو من المتباينات التي تتباين بالصفات، دالاً على ذلك بشاهد ثنائية الإنسان والبشر، مفرقاً بينهما، ونافياً كونهما من المترادفات. نقل هذا الرأي العالم المصري جلال الدين السيوطي (849 - 911هـ/ 1445 - 1505م) في كتابه (المزهر في علوم اللغة وأنواعها).
وفي الأزمنة المعاصرة، تجدد النقاش حول هذه الثنائية، وتركز حول: هل جنس البشر هو جنس الإنسان في عالم الاجتماع الإنساني؟ أم هما جنسان مختلفان لهما طبائعهما المتفارقة في النواحي اللغوية والإدراكية والسلوكية والاجتماعية والثقافية، يجمع بينهما من بين كليات أرسطو الخمس كلية الجنس. وهناك من قال بهذا التفارق الكبير بينهما، ورتب عليه تراتباً زمنياً طويلاً، جاء فاصلاً ومتعاقباً بين عصرين، عصر سابق عُرف بعالم البشر الذي يُصوَّر بأنه أشبه بعالم الكائنات الحيوانية، وتلاه عصر عُرف بعالم الإنسان الذي مثَّل كائناً ناضجاً ومؤهلاً لتحمل المسؤولية والتكاليف، ومتفارقاً كلياً عن باقي الكائنات الحيوانية الأخرى.
وأكثر من أثار النقاش حول هذه القضية من المعاصرين، وفجر بها معركة فكرية حامية وصلت إلى ساحة القضاء، هو الباحث المصري الدكتور عبدالصبور شاهين (1347 - 1431هـ/ 1929 - 2010م) الذي نشر كتاباً مثيراً بعنوان: (أبي آدم.. قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة) صدر سنة 1989م، وأبان فيه توضيحاً وتفصيلاً ما توصل إليه في شأن هذه القضية، مبيناً سعيه إلى التوفيق بين الموقف القرآني والاتجاه العلمي في تصوير الحياة البشرية على هذه الأرض، ومراعياً قداسة النصوص المنزَّلة، ومقدماً -بحسب رأيه- رؤية عقلية تحترم المنطق، وتستنطق اللغة من جديد، وتدعم إيمان المؤمنين بما ينطوي عليه القرآن الكريم من أسرار لعلها خفيت عن بصائر ذوي التمييز.
في هذا الكتاب فرق الدكتور شاهين، وفارق قاطعاً بين البشر والإنسان، فاصلاً بينهما على أساس التعاقب الزمني الطويل، معتبراً أن البشر هم طلائع الخليقة وقد بادوا، ودرست آثارهم، فلم تبقَ منهم سوى أحاديث وأحافير تدل على أنهم كانوا موجودين منذ عصور جيولوجية متقادمة، وكانوا مجرد مخلوقات متحركة، حيوانية السلوك، ثم حل مكانهم الإنسان وهو أرقى رتبة منهم. منتهياً إلى حقيقة عدها لا ريب فيها، قررها قائلاً: إن بين البشر والإنسان عموماً وخصوصاً مطلقاً، فالبشر لفظ عام في كل مخلوق ظهر على سطح الأرض، يسير على قدمين ومنتصب القامة، والإنسان لفظ خاص بكل من كان من البشر مكلفاً بمعرفة الله وعبادته، فكل إنسان بشر، وليس كل بشر إنساناً. والنتيجة لديه أن آدم هو أبو الإنسان، منه بدأت مرحلة الإنسان، وليس أبو البشر.
هذا الكتاب أحدث دوياً، صوره الدكتور شاهين بما يحدثه سقوط صخرة ضخمة في بركة آسنة، وقد أثار جدلاً وسجالاً حامياً تعدّى ساحة الرأي، وامتد إلى ساحة القضاء، ورفعت عليه أربع قضايا متواليات، تقدم بها رجلان من أهل القانون والدين، قضيتان منهما تولت النظر فيهما المحكمة الابتدائية، وقضيتان عرضت أمام محكمة الاستئناف العادي والعالي في القاهرة، وانتهى مصير هذه القضايا إلى الرفض.
ودخل على خط هذا السجال، مجمع البحوث الإسلامية الذي شكل لجنة علمية للنظر في موضوع الكتاب، وأصدرت تقريراً بشأنه حرر سنة 1999م، جاء فيه: إن المؤلف درس موضوعاً دقيقاً يصعب على الباحث أن يصل فيه إلى رأي قاطع أو قول فصل، يوافق عليه سائر الباحثين، ولا ترى اللجنة فيما كتبه المؤلف محاولة للتوفيق بين العلم والدين، بقدر ما ترى فيه اجتهاداً منه في فهم النص القرآني، وهو اجتهاد لا توافق اللجنة على بعض أجزائه، حيث لا يكفي ما ساقه في هذا التدليل ليقرر النتائج التي انتهى إليها. وخلص تقرير اللجنة إلى أن المؤلف لم يتجاوز الحد في تأويلاته للنصوص القرآنية، تجاوزاً يخالف به ثوابت العقيدة أو يتناقض مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة. وقد لقي هذا التقرير رضا من الدكتور شاهين ووصفه بالتقرير المستنير، وضمه ملحقاً إلى كتابه في طبعة سنة 2017م.
أما الذي أراه في شأن هذه القضية، فيقع على خلاف ما توصل إليه الدكتور شاهين في تأويلاته وتحليلاته التي صوَّر أنها استغرقت منه خمسة وعشرين عاماً أو تزيد. فإني واستناداً إلى النص القرآني لا أرى هذا التعاقب الزمني الفارق نوعاً، والفاصل نضجاً بين البشر والإنسان، فالبشر هو الإنسان والإنسان هو البشر، بلا زيادة ولا نقيصة.
والفارق بين اللفظين يتحدد على أساس معين جاء مقصوداً، فالبشر هو لفظ يطلق للدلالة على نوع من المخلوقات يختلف هيئة وطبيعة عن أنواع المخلوقات الأخرى، وتحديداً عن أجناس الملائكة والجن والحيوان، وسمي بهذا اللفظ ليكون دالاً على أمرين مترابطين هما: الظهور والجمال. فالبشر يحمل معنى الظهور في مقابل نوعين من المخلوقات كانا سابقين على البشر وجوداً، وليس لهما ظهور بالنسبة إليه، وهما: الملائكة والجن. ويحمل هذا اللفظ أيضاً معنى الجمال في مقابل نوع من المخلوقات له ظهور وليس له جمال مقارنة بالبشر، ونعني به الحيوان.
وإذا رجعنا إلى النص القرآني، نجد أن جميع استعمالات كلمة البشر، جاءت للدلالة على هذا الجانب المتعلق بكونه نوعاً من المخلوقات يختلف عن باقي أنواع المخلوقات الأخرى. ونلمس هذا الأمر في جميع نواحي استعمال هذه الكلمة تقريباً، ومن هذه النواحي ما يتعلق ببداية خلق هذا النوع المعروف بصفة البشر، وفي هذا السياق جاءت مجموعة من الآيات، منها قوله تعالى: (إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ) (سورة ص، الآية71)، خطاب في الآية إلى الملائكة بإيجاد نوع من الخلق معروفاً هيئةً بالبشر. وقوله تعالى: (قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) (سورة الحجر، الآية 33)، فالآية دالة على اعتراض إبليس لهذا النوع من الخلق معروفاً هيئةً بالبشر. إلى جانب آيات أخرى.
ومن هذه النواحي، ما يتعلق بتعريف الرسل لأنفسهم، وهم يخاطبون أقوامهم، وأنهم من نوع البشر مثلهم، تأكيداً منهم على أن التكليف بالنبوة لا يغير في جانبهم البشري، ولا يخرجهم عن صفتهم البشرية، وبياناً لهم أن حكمة الله اقتضت اختيار رسله من البشر، وليس من الملائكة أو من الأنواع الأخرى. وفي هذا السياق جاءت مجموعة من الآيات، منها قوله تعالى: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) (سورة إبراهيم، الآية 11)، وقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ) (سورة فصلت، الآية 6). إلى جانب آيات أخرى.
ومن هذه النواحي كذلك، ما يتعلق باعتراض الأقوام على الرسل والأنبياء، وأنهم من البشر مثلهم نوعاً وخلقاً، فكيف يبلغون عن الله، ناظرين إلى أن رسل الله ينبغي أن يكونوا من نوع غير البشر، كنوع الملائكة الذين يتصلون به سبحانه، أو من نوع آخر ليس مثلهم من البشر، وفي هذا السياق جاءت مجموعة من الآيات، منها قوله تعالى: (فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ) (سورة المؤمنون، الآية 24)، وقوله تعالى: (وَمَآ أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ٱلْكَاذِبِينَ) (سورة الشعراء، الآية 186). إلى جانب آيات أخرى.
وأما بالنسبة إلى كلمة الإنسان، فقد جاءت في النص القرآني دالة على الجانب السلوكي، ومبرزة طباعه الجُوانيّة، وناظرة له ذاتاً لكي يتجه بنظره إلى ذاته تزكية وإصلاحاً. وهذا ما يفسر توجيه الذَّم للإنسان بعنوان الإنسان في النص القرآني، والتعريف به من خلال ربطه بمجموعة من الصفات الذّميّة، فالقرآن استعمل كلمة الإنسان في جانب الذَّم أكثر من أي جانب آخر، ليس بقصد تكريس الموقف السلبي تجاه الإنسان، وإنما ليكون بصيراً بذاته، بوصفه كائناً بحاجة إلى إصلاح.
ومن هذه الآيات الدالة على الجانب الذّمي للإنسان، قوله تعالى: (وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولاً) (سورة الإسراء، الآية 11) وقوله تعالى: (وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُوراً) (سورة الإسراء، الآية 67)، وقوله تعالى: (وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (سورة الأحزاب، الآية 72)، وقوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ) (سورة العلق، الآية 6) وقوله تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (سورة العصر، الآية 2)، إلا جانب آيات أخرى.
وما ننتهي إليه أن كلمة البشر تشير إلى الجانب الظاهر لهذا الكائن المفارق والمقابل إلى باقي الأنواع الأخرى من المخلوقات الظاهرة مثل الحيوانات، والخفية مثل الجن والملائكة. والإنسان يشير إلى الجانب الداخلي لهذا الكائن المخلوق. لذا فإن البشر يقابل الأنواع الأخرى المذكورة خَلقاً، والإنسان يقابل الإنسان خُلقاً وليس خَلقاً. فلا تعارض بين البشر والإنسان ولا تعاقب.

ذو صلة