تشكل الموسوعات ودوائر المعرفة فضاء معرفياً غنياً بشتى علوم الحياة، وتبرز بوصفها مصدراً معلوماتياً مهماً لكافة الباحثين والمهتمين، وتلعب دوراً محورياً في توثيق العلوم والآداب والفنون والمعارف الإنسانية بكافة أنواعها، بشكلها الورقي، سواء كانت موسوعات تراثية أو معاصرة أو حديثة، أو بشكلها الرقمي الذي ارتبط بالتطور التكنولوجي الهائل وتقنيات المعلومات والاتصال، بما يسمى (بالعصر الرقمي).
إن حاجة الإنسان للعمل الموسوعي أصيلة وقديمة، بدأت بمجموعات مرجعية من المخطوطات ثم انتقلت إلى موسوعات ضخمة، وقد تصدى لها العديد من العلماء والباحثين ونهضوا بعلومها وأشكالها ضمن ضوابط تعتمد على التدقيق الأكاديمي والمراجعات العلمية الصارمة، لضمان موثوقية معلوماتها، وحرصاً على الاستفادة منها كمنتج معرفي في العالم العربي والعالم الغربي.
وفي هذا الجانب قدم العرب عشرات الموسوعات الورقية التي شكلت مصدراً موثوقاً للمعرفة بدأت من تراثنا العربي الإنساني حتى زمننا الحاضر، منها لا للحصر مفاتيح العلوم للخوارزمي، ومسالك الأبصار في ممالك الأمصار وغيرها، التي نقلت العلوم والمعرفة في زمن مبكر، ثم جاءت موسوعات معاصرة أمثال موسوعة كنوز المعرفة، موسوعة عالم المعرفة، موسوعة الحضارة العربية الإسلامية، والموسوعة العربية، والموسوعات المتخصصة في السياسة والإعلام والجغرافية وغيرها، في مؤشر على عظمها وأهمية وجودها، والتي اتخذت من دور العلم والمكتبات العامة والخاصة مكاناً لها ولروادها من العلماء والباحثين والدارسين.
وأمام التطور التكنولوجي وثورة المعلومات والاتصال، وأدوات التكنولوجيا التي شملت تحولاً رقمياً لكافة مجالات الحياة، أصبحت الموسوعات الإلكترونية منتجاً معرفياً يواكب العصر الرقمي، وأصبحت اكثر رواجاً وأكثر طلباً من قبل الكثيرين، مستفيدة من أدوات العصر الرقمي، فظهرت موسوعات علمية جديدة وأُخرى تم رقمنتها وإنتاجها من جديد، فضلاً عن المكتبات الرقمية، لتشكل بيئة معرفية وعلمية تساهم في نقل البيانات والعلوم في فضاءات جديدة من المعرفة، وبشكل بصري مطلوب. وهنا قدم العرب كغيرهم موسوعات مميزة منها الموسوعة العربية، موسوعة المعرفة، موسوعة ويكيبيديا العربية، موسوعة موضوع، وموسوعة اقرأ، وغيرها الكثير.
أمام هذا التحول المعرفي الكبير ومِيزاته التي لا حصر لها في سهولة نقل المعرفة والعلوم، تغيرت أنماط البحث من الورقي إلى الإلكتروني، وتراجع الطلب على الموسوعات الورقية، وأصبحت المصادر الرقمية الأكثر طلباً، وتغير سلوك الباحثين والقراء، بفضل محركات البحث الإلكترونية التي أخذت بالانتشار، وأصبحت الأكثر اعتماداً لسرعة البحث من خلال الكلمات المفتاحية وفي زمن لحظي نتمكن من الوصول لمعلومات الموسوعة دون تصفحها أو قراءتها.
وبين التصفح الورقي والاستهلاك الرقمي، أصبحت الموسوعات الرقمية أمام تحديات تتطلب التحديث المستمر من أجل المواكبة والاستمرار، لأن واقع الموسوعات العربية رغم وجود مشاريع موسوعية رائدة مثل الموسوعة العربية العالمية والموسوعة الكويتية المختصرة، إلا أنها ليست بالمستوى المطلوب مقارنة بالموسوعات الغربية، وذلك لأسباب منها ضعف التفاعل المجتمعي البحثي، وحاجتها لجهد جماعي ومؤسسي وتمويل مالي كبير، الأمر الذي يحول دون تحديثها وإثراءها وتغذية محتواها العلمي، فهي تحتاج إلى مبادرات مدعومة من مؤسسات أكاديمية علمية وبحثية مرموقة، كما تحتاج إلى المؤسسات المالية الداعمة والمانحة لتنهض بالمحتوى المعلوماتي الموسوعي العربي وبالشكل الرقمي على شبكة الإنترنت، وبخطوات ماكنة لتحقق موثوقيتها وتعزز تنافسيتها التي تنعكس على الزائرين من الباحثين وغيرهم.
وأمام تحد أكبر، تواجه الموسوعات الرقمية وجود محركات بحث عملاقة، تتطور بشكل سريع وتستقطب الملايين من الزوار، وبوصفها مشاريع تجارية مدعمة ببرمجيات وأدوات، أصبحت قادرة على تحليل ومعالجة قواعد البيانات واسترجاعها بسرعة فائقة، ولديها قدرة على الاستمرار والتحديث بسبب الملاءة المالية، التي جعلتها مرجعاً وبوابة للبحث، ومن بين أشهر محركات البحث جوجل، بينج، ياهو، بايدو، وياندكس، وغيرها لا للحصر، فلابد للعمل الموسوعي الرقمي التحديث والتطوير والمواكبة خصوصاً في عمليات البحث، لتوازي تفوق محركات البحث التي باعتقادي أنها ساهمت بالتعريف بعدد من الموسوعات غير المعروفة لدى الباحثين خصوصاً الأجنبية، وبنفس الوقت لدى محركات البحث القدرة على أخذ الباحثين باتجاهات التصفح السريع دون البقاء أطول في مطالعة الموسوعات والتعرف على ماهيتها وغناها المعرفي.
وانطلاقاً من خصائص المحركات التقنية التي تُقدم أدوات تقنية فعالة لمستخدميها في الوصول للنتائج بسرعة لحظية تساهم إلى حد كبير في توفير الجهد والوقت وتقدم بدائل معرفية متعددة، وتقرب النتائج البحثية بدقة ملحوظة لأقرب معلومة، مروراً بالتوسع في استخدام الحواسيب المحمولة والهواتف الذكية، باتت محركات البحث قوة رقمية هائلة، تقدم بوابات علمية وثقافية وفنية وتجارية عربية وأجنبية، وتشكل تحدياً أمام الموسوعات بعد أن أخذت منحى آخر بالمستخدمين بالبحث عن المعلومة دون الرجوع للموسوعة بشكل مباشر، حيث شكلت هذه الميزات قيمة مضافة لمحركات البحث على الشبكة العنكبوتية (شبكة الإنترنت)، فضلاً عن أن الموسوعات تتطلب استضافتها على الخوادم (السيرفرات) المحلية والدولية دعماً تقنياً ومالياً كبيراً، في ضل التطور الذي بات العالم فيه يتوجه لاستخدام السحب الإلكترونية بديلاً عن الخوادم (التخزين السحابي)، كما أن انتشار الذكاء الاصطناعي بآفاق لا يمكن التنبؤ عنها، حيث يتمتع بقدرات وميزات قد تؤثر على موثوقية المعلومات ودقتها في الموسوعات وغيرها، الأمر الذي يطرح التساؤل: ما مصير الموسوعات الرقمية في ظل التطورات التكنولوجية المتسارعة أو في حال حدوث أي خلل؟
وهنا تأتي أهمية الحفاظ على الموسوعات الورقية وتطويرها وتجديدها، في ظل توسع الجامعات العربية والمراكز البحثية الكبيرة، ففي كل جامعة قديمة أو حديثة مكتبة علمية يرجع لها الباحثون. وفي مكتباتها تحظى الموسوعات الورقية ببعض المكانة لدى الكثيرين، بسبب موثوقيتها وعدم تعرضها للتعديلات العشوائية، ومع ذلك فإن مستقبلها يعتمد على مدى قدرتها على التكيف مع العصر الرقمي من خلال إنتاج نماذج هجينة بين الورقي والرقمي أو من خلال إنتاج موسوعات رقمية تفاعلية تعزز تجربة المستخدم، الأمر الذي يتطلب جهوداً كبيرة في ضبط جودة إنتاجها بشكل رقمي، ضمن أطر علمية صارمة تعزز مكانتها وتحافظ على أهميتها ورصانتها كبوابة معرفية ومرجعية للمعلومات.
إن المستقبل ليس صراعاً بين الورقي والرقمي بل هو تكامل بينهما كركيزة مرجعية تعالج مواضيع مختلفة لا يمكن الاستغناء عنها في ظل عالم المعرفة المتجددة الذي يحتكم للتطورات التكنولوجية، بما يخدم المؤسسات البحثية والباحثين.