قد يقال، ويصدق القول، إن هذا عصر المعلوماتية، ويقال إن من يمتلك الأرشيف فقد امتلك الحقيقة. وتولي الدول في عصرنا هذا اهتماماً كبيراً بالمعرفة في شتى حقولها. وبهذه المعرفة تقفز بعض الدول إلى صدارة المشهد الدولي في ميادين السياسة والاقتصاد والزراعة والصناعة، وفي السلم والحرب.
وزيارة واحدة إلى مكتبة الكونغرس الأمريكي في واشنطن، حيث تتجمع الكتب والمخطوطات والوثائق والأسطوانات والتسجيلات في مختلف ضروب الثقافة والفنون، تكفي لإدراك أحد أسرار التفوق الأمريكي.
ونذكر هنا أن دار الوثائق السودانية قد لعبت الدور الأساسي في استعادة مصر لمنطقة طابا في ذروة الصراع مع إسرائيل، فقد كانت الوثائق الخاصة بموضوع طابا موجودة في الخرطوم، وجاء الخبراء المصريون واستلموا هذا الكنز الثمين الذي كان حاسماً في استعادة طابا.
ولا بد لكل باحث محترف أن تكون من بين أدواته حتى يستحق هذا اللقب الموسوعات والمعاجم ودوائر المعارف، سواء في مكتبته الخاصة أو المكتبات العامة الموجودة في محيطه، ففيها تتوفر المعلومات الأساسية عن كل ما يدرسه الباحث ويبني تحليلاته عليه. وإعادة قراءة ما تحتويه الموسوعات هي جزء مهم من عمل الباحثين لاستخلاص الدروس والعبر، خصوصاً في مجال الدراسات التاريخية.
وكانت هذه الموسوعات توفر الوقت والجهد المبذولين في الوصول إلى الحقائق العلمية الموثوق بها، وبوجود الفهارس يتيسر الوصول إلى المعلومات الصحيحة.
وقد انتشرت في معظم الأقطار العربية الكتب التي تحاول القيام بأجزاء من مهمة الموسوعات، وانتشرت معاجم وقواميس تعنى مثلاً بأعلام الموسيقيين والمسرحيين والتشكيليين والأدباء والسياسيين. ومثلاً، في الستينات أصدرت مجلة الهلال القاهرية موسوعة الجيب الاشتراكية، وتوالى إصدار مصطفى بيومي لكتب مثل معجم شخصيات نجيب محفوظ. وفي السودان، كان جهد البروفيسور قاسم عثمان نور في إنجاز مصادر الدراسات السودانية ومعجم المؤلفين السودانيين في ستة مجلدات.
وفي عهد الثورة الرقمية وثورة الاتصالات أصبح الأمر أكثر يسراً وسهولة. وبالضغط على الأزرار في جهاز الحاسوب، تنفتح أمامك أبواب العلم والمعلومات، وتتدفق عبر هذه الأجهزة التي دفعت الكتاب الورقي إلى التراجع عن مكانته العالية التي كان يحتلها في مكتباتنا الخاصة والعامة.
وقد لاحظت في بعض المدن السودانية وفي عواصم عربية قمت بزيارتها أن المكتبات التي كانت توفر الكتب والمراجع لطلاب العلم والباحثين والدارسين وهواة الاطلاع، بعضها أغلق أبوابه واتجه إلى تجارة أخرى غير تجارة الكتب، والبعض الآخر اتجه إلى المتاجرة في أجهزة الحاسوب والهواتف الجوالة، تمشياً مع ما اصطلح عليه بتسميته ثورة الاتصالات. والملاحظ أيضاً أن معظم الشباب العربي قد استغنوا عن الكتاب الورقي واستبدلوه بهذه الأجهزة المتاحة في جمع المعلومات لدراساتهم وأبحاثهم. ومن ضمن الكتب الورقية التي لا يعيرها بعض شباب الباحثين اهتماماً: الموسوعات والقواميس ودوائر المعارف، وهي باهظة الثمن، وقد لا يتيسر للباحث اقتناؤها والحصول عليها، وكذلك في مكتبات الجامعات والمكتبات العامة التي تقلصت ميزانياتها، مع غلاء أسعار الكتب وارتفاع تكلفة الطباعة وصعوبات ترحيل الكتب... إلخ.
ونحن الذين شهدنا العصر الذهبي للكتاب الورقي في ستينات وسبعينات القرن العشرين الميلادي، نحاول التأقلم مع الأوضاع الجديدة التي فرضها التقدم التقني الهائل، وفي ظل هذه الظروف سادت الكتابة الإلكترونية.
وقد أجرى البروفيسور والروائي واسيني الأعرج حواراً معي ومعنا أيضاً د.نانسي إبراهيم (مصر) في التلفزيون الجزائري حول هذه الكتابة الإلكترونية أو الرقمية، خاصة في مجال السرديات.
وقد أبديت ملاحظة أن المصطلح غير دقيق، وأن الكتابة السردية أو الشعرية المبثوثة في الفضاء الافتراضي من الأفضل أن نطلق عليها الأدب التفاعلي، بمعنى أن هذه الكتابة سرعان ما تجد الاستجابة والتفاعل معها -سلباً أو إيجاباً- في هذا الفضاء الممتد على مساحة الكرة الأرضية. فقد تكتب قصة أو قصيدة في مدينة أو قرية في القارة الأفريقية، وفي خلال دقائق يطلع عليها الآلاف وربما الملايين في مختلف قارات العالم، وتجيء تعليقاتهم وردود أفعالهم على منتوجك الإبداعي. وهذا التفاعل الإيجابي السريع هو الذي ميز الكتابة في عصرنا الحاضر.
ولكن هناك ملاحظة جديرة بالتأمل، وهي أن غياب المجلات المحكمة والملفات الثقافية الرصينة في الصحافة قد أدى إلى إغراء الكثير ممن لا يملكون الصبر والأناة والقدرة على البحث العلمي، وتدقيق المعلومات، والعناية باللغة والأسلوب. وهذا ينطبق على الكتابة الإبداعية أيضاً، وقد قاد هذا إلى بث الكثير من المعلومات والمفاهيم الخاطئة. ولا يلتزم بعض كتاب الأسافير بالحيطة والحذر في تدقيق المعلومة، وتحري الدقة في تقديمها، والصبر الذي يعين على تحري المصداقية. وتكون المأساة أعمق حينما يصل الإهمال إلى تهديد أمن وسلامة الأفراد والجماعات والدول، ويهدد استقرار المجتمعات، ويعبث بأمنها الوطني.
ويصبح الأمر أكثر خطورة إذا تجاوز وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء إلى الموسوعات، التي ظل الباحثون يتعاملون معها بكل ثقة، لأنها تعرضت للفحص والتمحيص والمراجعة، وأصبح لديها القول الفصل لدى جمهور القراء والكتاب والباحثين. ولا تجد المعلومة طريقها لتصبح جزءاً من الموسوعة، إلا بعد إخضاعها للتمحيص بواسطة فريق من المختصين.
والموسوعات ودوائر المعارف، وكذلك المعاجم والقواميس، ومن بينها المنجد في اللغة والأعلام في طبعاته المختلفة، وما يرافقها من تجديد وتنقيح، جعلها كلها تتبوأ المكان الأسمى.
وحالياً، حلت ويكيبيديا مكاناً متميزاً كإحدى وسائل المعرفة في العالم الرقمي. وننبه هنا إلى أن التقدم التقني الهائل ستجتاح به العولمة ثقافاتنا الشعبية والمحلية، خاصة لدى الأجيال الجديدة، مما يجعلنا ندق ناقوس الخطر، لا من أجل الانغلاق، ولكن لا بد من سياسة رشيدة تجمع بين مواكبة العصر والمحافظة على تراثنا الوطني والقومي من الاندثار، وهو مهدد بتيارات ورياح العولمة التي تهب على الوطن العربي وأفريقيا وآسيا. وقد استغل الغرب تفوقه في فرض ثقافته ونمط وأسلوب حياته على بقية أنحاء العالم في محاولة لصنع هيمنة ثقافية، متناسين الحكمة من وجود التنوع الثقافي وأساليب العيش المختلفة، والمنضوية تحت المعاني التي أفصحت عنها البلاغة القرآنية التي جعلتنا شعوباً وقبائل لنتعارف والمعرفة هنا بأوسع معانيها.
وخلاصة القول، إن الباحثين الثقات لن يستغنوا عن هذه الموسوعات، وعن التحقق مما يقدمونه إلى القراء، ولكن هذا لا يمنع من الإفادة من منجزات التقنيات الحديثة التي توفر الوقت والجهد، وفي انتظار ما يسفر عنه الخطو المتسارع لماكينة العلم والتكنولوجيا، التي تفاجئ العالم كل يوم بجديد لم يخطر على البال.