تظل المعرفة بكل زخمها وتراكماتها سبيلاً يتضمن تصورات وآراء وحقائق مختلفة، جسدتها ظواهر الكون، وكل ما يشغل الإنسان في محيطه، وما يستفز تفكيره، ويثير تساؤلاته، ويستدعي التأمل والإبداع والابتكار، ليصوغ مناهج تبرز معرفة طبيعية ذات طابع تراكمي، فتمكنه من إظهار كفاءة في التعامل مع واقعه وضبط تصورات تهدف إلى بناء الأفكار بناءً موضوعياً يستند إلى واقع ينتهي به المطاف إلى تفسيره للحصول على المعرفة التي تتجسد في مضامين متنوعة ومختلفة، تتسم نتائجها بالتغير والإقرار والإثراء، في مراحل تنطوي على تلاقح وتمازج مع التجارب والخبرات المتراكمة، لمقارعة الصعاب التي تعترض كينونة الإنسان، وتذلل العقبات أمام معضلاته، فتراه يرتقي تدريجياً نحو الأفضل، ويزداد وعيه باكتساب المعرفة، وانتهاج السبل لتحقيقها. وعلى مدار الأحقاب والأزمنة، ثبت أن المعرفة والاستعداد لنيلها ليس حكراً على جنسية أو أمة بعينها، فهي إرث إنساني يخص البشر بكل أعراقهم ومعتقداتهم، وكل المجتمعات على اختلاف مشاربها.
ما المعرفة؟
إن مسألة المعرفة تطرح مع المجتمعات البشرية، وتخص الإنسان العاقل، فهي تسبق الكتابة، وتولد مع لغة المعنى، كما تصورها الفلاسفة الحسيون في القرن الثامن عشر، وهي أيضاً مراقبة الأشياء من خلال تفسير لها، هذا التفسير الذي يقوم على نظام فلسفي كما هو الحال في العصور القديمة، على سبيل المثال مع (أريسطو) أو المعتقدات المنقولة عن طريق التقليد.
إن مسألة نقل المعرفة ظلت هاجساً ومسعى للمجتمعات البشرية، حيث اكتسبت قدراً من الأهمية منذ القدم، والتي تعاظمت وتضاعفت مع تعاقب الأزمنة سواء تعلق الأمر بنقلها في نفس الزمان والمكان بطرق مختلفة من خلال ما يمكن أن يتخذ أشكالاً متعددة لنقل المعرفة، سواء بواسطة جهات متخصصة (المعلم) أو يتم بطريقة منتشرة في الممارسة الاجتماعية، كما تستخدم ناقلات مختلفة من كتابة وكتب وكلمات وذاكرة وصور وإيماءات، ومنحوتات وغيرها وأن تكون مدعومة من قبل أطر يتم تنفيذها في الحياة الأسرية والاجتماعية أو النشاط الاقتصادي أو الممارسة الدينية، وقد تتعرض المعرفة للفقد والنسيان أو التضاؤل كما هو الأمر في العصور الوسطى، لتتبلور من جديد في إعادة الاكتشاف في عصر النهضة في القرن الثامن عشر، كما يمكن نقل المعرفة في الفضاء، من بلد إلى آخر أو من منطقة ثقافية إلى أخرى كما هو الشأن في نقل المعارف البيزنطية أو الإسلامية إلى الغرب المسيحي في العصور الوسطى، ومن الغرب إلى الصين واليابان في القرنين التاسع عشر والعشرين، كما نجد أن للأسرة دوراً مهماً في التنشئة الاجتماعية للأفراد، هذا النوع الذي ينطوي على عمليات النقل من خلال التعليم اليومي غير الرسمي، من خلال الملاحظة والمشاركة والتشريب والتأطير والتقليد والتكرار والإيماءة.
ويكيبيديا مولود العصر الرقمي
ظلت محاولات تجميع المعرفة البشرية تتطور عبر العصور حسب خصائص كل عصر، وطبيعة الكم المعرفي المتاح وطرق التجميع والخامات المعتمدة في توثيقه وحفظه، ففي بلاد ما بين النهرين كانت الألواح الطينية التي تضمنت قوائم بالكلمات وجملة من المفاهيم تعد أقدم نموذج لتجميع المعرفة، وقد كانت مصر القديمة مناخاً لتناول المعرفة في مجالات الطب والهندسة وغيرها، إلى اليونان القديمة التي حاولت تنظيم المعرفة بدءاً من أرسطو إلى الصين في نفس السياق، أما في العالم الإسلامي ظهرت (مفاتيح العلوم) للخوارزمي و(صيدلة الطب) للبيروني، وفي أوروبا ظهرت (Etymologiae) لإيزيدور الإشبيلي، وفي عصر النهضة كانت المحاولات جادة وفعالة في إرساء موسوعات، مثل (Encyclopédie) لديدرو ودالمبير في القرن الثامن عشر. وفي العصر الحديث بدءاً من القرن التاسع عشر ظهرت موسوعات مثل (Encyclopædia Britannica) التي أصبحت مرجعاً مهماً، فتكاثرت الموسوعات، وشهدت تطوراً كبيراً مع ازدهار الطباعة، فكانت في مجملها منظمة شاملة جامعة.
ظهرت ويكيبيديا كمشروع رقمي أحدث انقلاباً وتحولاً كبيراً في عالم الموسوعات للانتقال من المجال الورقي والأقراص المضغوطة على الحواسيب، إلى فضاء أوسع بأفق غير محدود ، بحيث تستطيع ويكيبيديا أن تغطي جميع المواضيع وتساهم في تطوير مفهوم (الثقافة العامة)، ففي الوقت الذي تحتوي فيه الموسوعة التقليدية على آلاف المقالات تضم ويكيبيديا أضعافاً مضاعفة، مع مئات الملايين من زوار الموقع شهرياً، تستند في مبادئ التشغيل الرئيسية على مبدأ التعاون، بحيث يتم كتابة النصوص من قبل أي شخص، وكل المساهمين، كما هو الحال في أي موسوعة تقليدية، لا يعرضون المعرفة الأصلية، إنما هم يقومون بتركيب، حالة فنية، يدعمون ما يقدم بمصادر مختارة بعناية، في حين أن منتسبي ويكيبيديا لا يتم الحكم عليهم من خلال هويتهم وانتماءاتهم ومواقعهم، بل من خلال ما يقومون به. ويتم فحص كل إجراء من طرف الجميع بشفافية على الموقع، مع إمكانية التتبع والتدخل والعودة إلى الإصدار السابق، وتعتبر ويكيبيديا تجربة إنسانية رائدة في مجتمع بلا حدود، ينتهج التنظيم الذاتي بحيث يمكن لمئات آلاف من الأشخاص، أن يعملوا معاً رغم عدم وجود معرفة مع بعضهم البعض. إنها معجزة حقيقية بأن يصمد هذا المشروع التطوعي والتعاوني أمام شركات عملاقة لها كوادر بالآلاف ومبيعات بالمليارات في عالم رقمي يتطور بسرعة، ويخضع لشركات قوية متعددة الجنسيات، مع وجود جزئية مهمة تتمثل في محركات البحث التي لا تعود إلى ويكيبيديا بل تستخدم بيانات مباشرة مما يقلل من جمهور الموقع والظاهر أنه بعد مرور أعوام قليلة من انطلاقة ويكيبيديا رسخت نجاحاً باهراً، في المقابل لم تتمكن أي موسوعة ورقية من البقاء واستسلمت كلها للاختفاء والجنوح نحو الخيار الرقمي.