مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

أغنية تنجو من الموت

في لحظاتٍ تتداخل فيها الحياة بالفن، والألم بالنغم، اختتمت فايزة أحمد رحلتها الفنية بأغنيةٍ كأنها وصيتها الأخيرة، (لا يا روح قلبي)، تلك اللوحة الصوتية التي نسج كلماتها الشاعر حسين السيد، الذي رحل قبل أن يسمع صوت فايزة يحمل أبياته إلى الخلود، تاركاً خلفه شعراً ينتظر من يمنحه الحياة. أما اللحن فقد جاء من عبقرية الموسيقار الكبير رياض السنباطي، في عملٍ جمع بينهما، لحنٌ ولد في أحضان الشغف والتوق إلى الإبداع، وحماسها له لم يكن يعرف حدوداً. لكن الأقدار، بغموضها المعتاد، خطفت السنباطي قبل أن يكمل نسيج النغمات، تاركاً اللحن يتيماً في مهده، كأن الموت أراد أن يُسدل الستار على جزءٍ من الحكاية قبل أوانه. لكن ابنه، أحمد السنباطي، استجاب لنداء الأب، فأمسك بتلابيب اللحن، وأكمله بيدٍ ترتجف بين الوراثة الفنية والمسؤولية الثقيلة، ليُعيد النبض إلى ما كاد يُطوى.
وفي خضمّ هذا المشهد، كانت فايزة تقاوم عدواً آخر، جسدها المنهك يصارع المرض، لكن روحها كانت أقوى من أن تستسلم. كانت تدخل الأستوديو كما يدخل المحارب معركته الأخيرة، تمد جسدها المتهالك على ثلاثة كراسٍ، كأنها تُشيّد من نفسها جسراً بين الألم والأمل. كانت تنظر إلى مهندس الصوت بعينين تائهتين بين الإصرار والضعف، وتهمس بصوتٍ يحمل بقايا قوة: (سجّل يا مهندس…)، كأنها تُلقي تعويذةً لاستحضار الحياة من جديد.
لم تكن ترضى أن تُهزم، فكانت تستنجد بالطبيب كما يستنجد الظمآن بالماء، تتوسل إليه حقنةً تُسكت أوجاعها ليومٍ واحد، أربعٍ وعشرين ساعةً فقط، تكفيها لتُسكب روحها في الأغنية. وحين يرفض، كانت تجيبه بحزمٍ يشوبه العتاب: (الموت الحقيقي لي هو أن أُحرم من الغناء، هو شفائي الوحيد، هو راحتي من هذا العذاب). كانت تخرج من المستشفى، تُجرجر خطواتها المثقلة بالإرهاق، وتتوجه مباشرةً إلى الأستوديو، كأنها تُسابق الزمن، أو ربما تُصالح الموت على طريقتها. لم يكن الألم عدوها الأكبر، بل الصمت، ذلك الفراغ الذي يُهدد بابتلاع صوتها الذي كان يعني لها الحياة ذاتها.
وحين انتهت من تسجيل (لا يا روح قلبي)، لم تكن مجرد أغنية قد اكتملت، بل كانت معجزة نجت من فكّي الموت. في الأستوديو، سالت دموع الجميع -المهندس وكل من شهد تلك اللحظة- فقد كانوا يعلمون أنهم يستمعون إلى صوتٍ يُودّع العالم، إلى قلبٍ ينبض لآخر مرة عبر النغمات. وبعد ثلاثة أشهرٍ فقط من صدور الأغنية، رحلت فايزة أحمد في عام 1983، تاركةً خلفها لحناً لم يكن مجرد عملٍ فني، بل شهادةً على قوتها، على إيمانها بأن الفن يستطيع أن يُنقذ ما يعجز الجسد عن تحمله.
(لا يا روح قلبي) لم تكن مجرد خاتمة، بل كانت انتصاراً. أغنيةٌ نجت من الموت لتحكي قصة امرأة رفضت أن تُطفئها الآلام، فجعلت من صوتها شعلةً تُضيء الظلام، ومن لحنها ترنيمةً تخترق الزمن. كأن فايزة، في تلك الكراسي الثلاثة، لم تكن تُسجل أغنيةً فحسب، بل كانت تُسجل حياةً كاملة، حياةً اختارت أن تُغني حتى آخر نفس، لتُخبرنا أن الفن، في بعض اللحظات، يمكن أن يُعانق الروح ويمنحها خلوداً يتجاوز الفناء.

ذو صلة