مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

زفرة أخيرة

يجلس أحمد على مقعد خشبي باهت في حديقة صغيرة مُهمَلة، أصابعه تعبث ببعضها بعصبية خفية، وعيناه الزائغتان تتشبثان بضباب المدينة البعيد، حيث تومض الأضواء الخافتة كأنها ذكريات هاربة. لفحات هواء باردة تلفح وجهه، وكأنها تهمس بعتاب خفي لقلبه الذي تجمّد في وحدته، تماماً كالمقعد الخاوي بجانبه.
في جيبه الداخلي، تستقر الرسالة الأخيرة من ليلى، مطوية بعناية مؤلمة. كلمات قليلة مرسومة بخط يدها المألوف تحرق روحه:
«أحمد، حلمتُ أن نبني معاً بيتاً، لكنك آثرتَ هدم الأساسات قبل أن نبدأ البناء».
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مريرة، زائفة كوعود لم يفِ بها. تداعت إلى ذهنه صور ليلى وهي تمسك بيده ذات يوم، نظراتها العميقة تستقر في عينيه وكأنها ترى فيه مستقبلاً واعداً. كان صوتها الرقيق يتردد في أذنه:
«أحمد، أنا هنا... لكن إلى متى سأظل أنتظر أن تخوض معركتنا؟».
لكنه لم يفعل.. لم يستطع.. كان شبح الخوف يخنقه كلما لاحت في الأفق لحظة حاسمة.
تذكّر تلك الليلة الرمادية، حين وقفت ليلى أمامه عند باب منزله، عيناها تقاومان دموعاً حبستها طويلاً، قالت بصوت خافت لكن حاد:
«أحمد، هل ستخبر والدتك عنّا اليوم؟ أم سنؤجّل مرة أخرى؟».
كان يحمل في يده مفتاح سيارته، يُقلّبُه بأصابعه بعصبية، وعيناه تتجنبان عينيها.
قال دون أن ينظر إليها:
«ليلى... الوقت غير مناسب.. أمّي متعبة، والظروف...».
قاطعته بهدوء ينذر بالانكسار:
«الظروف؟ أم أنت من لا يريد أن يصنع ظرفاً؟».
التفت إليها أخيراً، لكنه لم ينبس ببنت شفة.. في تلك اللحظة، شعر وكأن شفتيه قد تجمدتا، وكأن كل الكلمات التي كان يحفظها ذابت في صدره.. كل ما استطاع فعله هو خفض رأسه، كمن يعترف بالهزيمة دون حتى أن يخوض المعركة.
رعبٌ دفين كان يسكنه، رعبٌ من مواجهة أهله بتقاليدهم الراسخة، خشية فقدان وظيفته الآمنة التي ورثها كإرث مقدّس، خوفٌ من الخروج عن المسار المرسوم له منذ نعومة أظفاره.. وفي كل مرة، كان صوته الداخلي يهمس بتبريرات واهية:
«ليس الآن... ربما يحين الوقت المناسب لاحقاً».
لكن الوقت لم يكن حليفاً للمترددين.
اليوم، الحقائق دامغة كالصخر.. ليلى لم ترحل عن حياته فحسب، بل غادرت المدينة بأسرها. تزوجت من رجل آخر.. رجل تجرأ على القتال من أجلها، لم يهب الوقوف في وجه رياح التقاليد والعادات.
وبينما يستعرض شريط ذكرياتهما المشترك، شعر بوخز حاد في قلبه، وكأن أنفاس الرياح الباردة تزيد من آلامه؛ انتفض واقفاً، خطواته تتجه بلا وعي نحو وجهة اعتاداها معاً: التلّة المطلّة على المدينة. كم قضيا من ليالٍ هادئة هناك، يتبادلان أحلامهما البسيطة، ينسجان خيوط مستقبل بدا لهما يوماً ما ممكناً.
لكن التلّة كانت خالية هذه المرّة. وقف أحمد وحيداً، ناظراً إلى الأضواء المتلألئة في الوادي السحيق. للمرة الأولى منذ زمن طويل، انحدرت دمعة حارقة على خده. تبعتها أخرى، ثم انهمرت الدموع كشلال غزير لم يعد قادراً على حجبه. لم يحاول حتى مسحها، وكأنه في تلك اللحظة يعترف أخيراً بالهزيمة أمام نفسه:
«لقد أضعت كل شيء... كل شيء ثمين».
ترددت في أعماقه فجأة عبارة قرأها ذات يوم في كتاب تاريخ مدرسي:
«ابكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال».
ليلى كانت مملكته، لكنه لم يحمل سيف الشجاعة ليحميها.. استسلم لجبنه، لأعذاره الواهية، لراحته الزائفة.
والآن، لم يبقَ له سوى تلك الزفرة الأخيرة... مريرة كطعم الفقد الأبدي.

ذو صلة