أزعم أن الزخم الثقافي في هذا العصر يمثل مشكلة للعقل، فكيف يتعامل مع (الثقافة المبعثرة) التي أبطالها من هَبَّ ودب، فكل قد أصبح كاتباً، وآخر عالماً، وثالث مثقفاً، ورابع.. وخامس.. الميدان مفتوح للكل.
إن العقل في هذا العصر يعيش مجموعة عوالم ثقافية في آن، وعندئذ يكون حاله كحال من يعاني من الانفصام، والتخبط في كل الأمور دون إدراك، وعند هذه الحال يعجز عن الاستيعاب.
إنني لست مشككاً في قدرة (العقل) الذي خلقه الخالق غير أن العجز يأتيه من لدن صاحبه الذي يتعب في السعي للحاق لمعرفة ما حوله، في وقت تكاثرت فيه أبواب الثقافة، إن كان من الجائز أن نسميها (ثقافة)، بينما هي مجرد ألعاب وهمية كألعاب الأطفال التي تومض فجأة ثم تنطفئ فجأة.
إنني أخشى أن تكون (التكنولوجيا الحديثة) تسعى لتدمير العقل السّوي، فتشغله عن التفكير، وهذا هو واقع من خلال إدمان الناس لها، فلم يعد مجال التفكير متاحاً نظراً لتغيير الرتم الذي تعوده هذا العقل وما تعتمد عليه هذه التكنولوجيا من السرعة في كل شيء، حتى الإنسان وهو يعود إلى بيته يستخدم (جوجل) لرسم خارطة الطريق التي يهدف إليها ولا يهتدي إلّا بها.
إن العقل في هذا العصر يعيش أزمة ضغط الوقت والتسريع في تنفيذ الأعمال وذلك بسبب الوسائل الحديثة التي يعيشها.
إن هذا الضغط، وذاك التسريع يسعيان لتكبيل العقل، والسعي وراء أوهام لن تُخرّج عالماً، ولا مثقفاً مثل ثقافة الكتاب والدرس وأماكنه.
إن الاستعمال لهذه التكنولوجيا في هذا العصر هو سيد الموقف أو كما قال الجاحظ في وقته وهو يتحدث عن اختلاط العرب بغيرهم ودخول ألفاظ إلى العربية ليست منها، فبالرغم من سعي اللغوين للحد منها، إلّا أن جهودهم لم تجد أمام الاستعمال الذي أسماه (بسيد الموقف) لأن اللغة أداة تواصل، والتواصل خاضع لهذا الاستعمال، وقد أدرك ذلك (ابن دريد) - 321هـ في علم اللسان حيث عقد باباً في (الجمهرة) أسماه: (ما تكلمت به العرب من كلام العجم حتى صار كاللغة...) (1).
إن ذلك في اللغة واحتواء العقل لهذه القضية، وتعامله معها، ولكن نحن الآن أمام سيل من الأبواب الثقافية التي من الصعب تحديدها أو الحدّ منها، فكان الاستعمال هو سيد الموقف والذي أحال الإنسان صاحب العقل إلى أشبه بآلة تسير تبعاً لهذه الآلة أو تلك والمشي في مجراها، وهذا في الواقع ما نسميه بالإدمان على هذه القنوات وتتبعها في كل ميدان من ميادين الحياة، وهو ما جعل العقل البشري السوي يعيش في مرحلة ذهول من واقع لا تعرف عواقبه.
إن العقل السوي يدرك أن لهذه التكنولوجيا جانبين: جانب سوي يخدم البشرية، ويقرب البعيد، ويوفر ما يحتاجونه ويأملونه حتى أصبح العالم وكأنه سوق قريب من باب المنزل أو المحل أو.. أو..
ولها جانب مظلم، وهو جانب يتمثل في الفهم الخاطئ للحرية لدى البعض وتعمدهم لنشر مفاهيم وأفكار تسمم الفكر السوي وتشوه الثقافة في خضم وجود كثرة وتنوع في أدوات وبرامج التدوين والنشر وسهولة استخدامها دون رقابة أو محاسبة، الأمر الذي قد يتلف فكر الأمة ويعزز مفاهيم تؤثر على سلامة العقول، بل تشوشها، وذلك مع كثرة مُدَّعي الثقافة والأدب، وتواري أصحاب العقول الناضجة في خضم هذا العدد المهيل من هؤلاء المدَّعين، وبهذا نلحظ تراجعاً واضحاً في معدل قراءة الكتب وتثقيف الفكر خلق بلبلة في العقل وكأنه يعيش في حيرة مقلقة (2).
إن العقل بدلاً من المشاركة الفاعلة في سماء الثقافة قد توارى وبدا وكأنه يراقب المشهد عن بعد وما يعيشه مع فوضى التواصل التي تنشر التفاهات ومن ثم تنويم المنطق وتغييب الإدراك، وبالتالي أصبحت العامة هي المسيطرة على المشهد وتحوّل الأعظم منهم إلى أشبه بقطيع يسير وفاق اتجاه رياح محتويات المنصات الإلكترونية (3)، التي اجتاحت المجتمعات في شتى أركان الكرة الأرضية، وهو شيوع أدَّى للحاجة إلى أنسنة علم الاجتماع الافتراضي الذي ظهر بعد هذا الشيوع، وظهور أنماط سلوكية ارتبطت به (4).
لقد كان ظهور هذه الوسائل الحديثة مسبباً في ظهور صدمة عند العقول التي كانت تمضي على نهج معرفي تُعرف رموزه وأعلامه وأماكنه ورواده وحدوده، لدرجة أن تحوّل كل شيء عندهم إلى ثقافة وفكر طالما هو يحرك الشجن والعواطف، في وقت كان فيه من يهتم بالعلم ومن يتعلق به. إن عقل الإنسان الحالي يعيش أزمة حقيقية أمام السيل الجارف من المعلومات الهشة التي لا يستطيع ملاحقتها، ثم إنها لا تعرف هويتها ولا منطلقها، الأمر الذي أصاب بعض العقول (بالاكتئاب) وبالقلق (5)، وهذه أمراض ظهرت مع هذه الوسائل في الوقت الذي لم يكن العقل القارئ يعرفها وهو يعيش مع الكتاب وأدوات المعرفة التي بنيت عليها المكتبة العربية والتي أصبحت تاريخاً متوارثاً.
إن قراءة تُنتج عن هذه الوسائل لن تكون مجالاً لاكتشاف الذات ومعرفة ما يمكن معرفته من المعارف الأخرى، إنها قراءة قد حالت بين القراء الحقيقيين وبين ما يشتهون، وإذا بهم يعيشون مع ثقافة لا تدل على التمايز الثقافي (6). إن الإنسان حقيقة وفي هذا العصر بالذات يعيش في دوامة لا تنتهي من المسؤوليات، الأمر الذي لابد أن ينعكس على درجة وعيه وثقافته، وهذا ينعكس على أخلاقياته التي لابد أن تناسب طبيعة المرحلة، ولكي يكون أمام تشكيل جديد للعقل وإعادة صياغة التفكير في هذا الضوء (7).
1 - انظر: الوافد اللغوي للدكتور السيد الشوربجي، صدر ضمن سلسلة كتاب المجلة العربية، رقم (279)، ص10.
2 - انظر مقالة بعنوان (رقمنة الثقافة- مستقبل يلوح بالأفق) د. صفاء زمان. العربي الكويتية 7894. صفر 1446هـ، ص 23 وما بعدها.
3 - انظر مقالة بعنوان (فوضى التواصل) بقلم حسن المودي، العدد السابق من العربي، ص 26 وما بعدها.
4 - انظر مقالة: من الفيسبوك إلى علم الاجتماع الافتراضي، بقلم: حاتم الجوهري، مجلة الفكر المعاصر 164 الإصدار الثاني، أكتوبر - ديسمبر، 2019م، ص 141 وما بعدها.
5 - انظر مقالة بعنوان: (إدمان الإنترنت وعلاقته بكل من الاكتئاب والقلق)، كتبها عبدالرحمن العازمي، والمنشورة في مجلة البحوث الأمنية، المجلد 29، ربيع الآخر 1441هـ، العدد 75، الصفحات 71 وما بعدها.
6 - انظر المقالة المعنونة بـ(المجانين المولعون بالكتب) بقلم فرانك فوريدي والمنشورة في مجلة (الثقافة العالمية) س 36، ع 198، مارس- أبريل 2019م، ص 142 وما بعدها.
7 - انظر كتاب: مخاض المصطلح الجديد لإبراهيم اليوسف، ص 109 وما بعدها. صدر ضمن سلسلة كتاب الرياض (رقم 191).