مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

رحيــل

دخلت إيمان غرفتها وأغلقت الباب دونهم لتبعد عنها أصواتهم المزعجة التي تسعى لتغيير مسار حياتها؛ غير عابئين بما تريد وما لا تريد. انكفأت على وجهها تبكي بحرقةٍ، وصمت.. والدها المسجى في صالة المنزل بلا حراكٍ. إخوتها يتأهبون لنقل جثمان الفقيد إلى المقبرة ليواروا جسده التراب. شقيقها الأكبر ما زال يحاول حتى الأمس إقناعها بعقد زواجها من شقيق زوجته. تشهق إيمان فجأة عندما رأت والدها يغادر المنزل إلى غير رجعةٍ محمولاً في نعش على أكتاف إخوتها.
تتذكر الآن بوضوح تامّ أنّها كانت الابنة المحظية، جاءت إلى الدنيا بعد أربعة ذكورٍ أصبحوا الآن رجالاً وأرباب أسرٍ.. مرَّ شريط ذكرياتها مع والدها وهي تشيعه بنظراتها الحزينة في ثوانٍ. تذكرت عبر صورٍ مرت سراعاً كيف تعلق بها والدها بعد أن ماتت زوجته وأصبح لا يستغني عنها. تذكرت كيف يرفض أن يقرب منها أحد ليأخذها منه حتى بلغت الأربعين، وأصبحت، وهي الفتاة الجميلة الجذابة التي كثيراً ما تقدم لها العرسان، تعي جيداً أنّ زهرة شبابها قد ذبلت. وماذا يهم؟ كان عزاؤها الوحيد أنّها تعيش في كنف والدها معززةً مكرمةً، تجد السعادة في خدمته ورعايته وهو في عقد الثمانينات تكالبت عليه أمراض السكر والقلب والدم، فكانت هي الطبيبة والممرضة أيضاً، لكنّها الآن وقد أزفت ساعة الفراق الأبدي له، بدأت تشعر بالخواء النفسي، فلا أبٌ ولا أمٌّ ولا زوجٌ ولا ولدٌ ولا بنتٌ.. لم يبق لها من هذه الدنيا سوى إخوتها الذين يودون أن يتخلصوا منها ويزوجوها بأقصى سرعةٍ، حتى قبل أربعينية والدهم، ليتنصلوا من مسؤوليتهم عنها!
لم يسبق لها أن اتخذت قراراً حاسماً في حياتها، فكل تجاربها في هذه الحياة كانت تسير بسهولةٍ ويسرٍ في ظل وجود والدها بجانبها ينصحها ويشد أزرها، لكن الآن أصبح الأمر مختلفاً. قررت أن تواجه إخوتها وتضعهم أمام الأمر الواقع الذي قررته: لم يعد الزواج مناسباً لها في هذا السن.
وجهت إليهم الكلام بعد عودتهم من دفن أبيهم والدمع ينحدر حاراً من عينيها:
أخي أحمد.. أخي محمد.. أخي سعيد.. أخي سعد.. أود أن تعرفوا أن هذا البيت هو بيتي قد باعه لي الوالد -يرحمه الله- بكلّ ما فيه من ذكريات.. فإن رغبتم في زيارتي فمرحباً بكم في أيّ وقت، وإن لم ترغبوا، فذلك شأنكم!.. سأحيا بقية عمري في هذا البيت وكأنَّ الوالد لم يمت!.. وتابعت: (لكنكم ستظلون إخوتي، وأبناؤكم أبنائي وزوجاتكم أخواتي.. وسأرسل لكم هدايا وحلوى العيد كما كان يفعل الوالد في حياته).
ساد الصمت لحظاتٍ والوجوه واجمةٌ. بدأ الإخوة يغادرون المنزل واحداً تلو الآخر.

ذو صلة