مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

الحرف اليدوية.. رمز للإرث الثقافي للمجتمعات

تمثل الحرف اليدوية جانباً مهماً من ثقافة الشعوب، وهي معروفة أيضاً باسم الأعمال اليدوية أو الصناعات اليدوية، وهي خير ما تزين وتنمق المجتمعات الراقية بجودة إنتاج تصميماتها التقليدية المفيدة وتتحلى بصفات جمالية رمزية، وشكلتها بالكامل أيدٍ ماهرة بفكر وطني يعكس الهوية الوطنية ويجسد البيئة المعاشة، وتتجلى فيها البصمة البصرية الموثقة بوضوح بين ثناياها، وهي أيضاً ترجمة حقيقية للإرث الحضاري والاجتماعي والمهني لأفراد المجتمع.
وتتميز الحرف اليدوية بأنها حبل متين لربط الماضي بالحاضر، وسبب في ازدهار الصناعات التقليدية المتتالية عبر العقود لبناء جذور اقتصاد غني بالإنتاج الوفير. وتعد المهن اليدوية هوية وطنية متعارفاً عليها بين المجتمعات المتقدمة، كما أنها تمثل عملة عالمية نادرة تتبادل بها المجتمعات الغنية باعتزاز شامخ في استثمار التراث والتاريخ من أجل المجد والنهضة، ومن أمثلة هذه الحرف اليدوية المنتشرة بين المجتمعات نجد صناعة السجاد، الحياكة والتطريز والكروشيه، تنسيق الزهور، أعمال الجبس والدهان، الحدادة، مشغولات النحاس والفضة والذهب، صناعة السيوف وأعمال النجارة، أعمال الرسم والخزف، صناعة الشموع والأشغال الخشبية وغيرها.
وإن شاءت أمة أن تزدهر وتستفيض في التقدم وتمضي إلى الأمام بين الأمم، عليها أن تتزين بالحرف اليدوية المنافسة كونها يتدفق عبرها بغزارة عبق الماضي الأصيل، وتصنع بين ثناياها مزيجاً ألقاً من الميراث الحضاري والتطور التقليدي الأنيق، لتنتج أيادي الوطن الماهرة إبداعاً لا متناهياً يحمل بين طياته نسمات الجمال والأصالة لأهميته العالية وقيمته الغالية.
وتعدّ الحرف اليدوية دليلاً دامغاً لتقدم المجتمع، لأنها تسجل تتابع تاريخه العظيم عبر عقود الاختراع والابتكار الفني العريق بكل صدق وشفافية.
وتمتاز الحرف اليدوية بالتفرد الفني الفريد في كل عنصر، وتحمل صفة صديقة للبيئة لأنها تشجع على إعادة التدوير للمواد غير المفيدة، كما أنها تحظى بأهمية ثقافية ودينية واجتماعية ووظيفية أيضاً، وهذا يعود إلى إمكانية توفير فرص عمل وفيرة لشريحة لابأس بها من أفراد المجتمع، ويعد مصدر دخل قومي ملفت للمجتمع، كما أنها تستطيع أن تسد حوائج أفراده خصوصاً من ذوي الهمم العالية، كفرص عمل متاحة لجعلهم أفراداً فاعلين ورفع معنوياتهم وقيمتهم في المجتمع، وبالتالي تعمل على تعزيز النمو في الناتج المحلي الإجمالي من النشاط التجاري والاقتصادي، ولا ننسى أهميتها الكبرى في إحياء التراث الفني للمجتمع ونقله من جيل إلى جيل جديد، وجذب السياح لاقتناء هذا المنتوج الوطني العبق. كما أنها تلعب دوراً مهماً في الحفاظ على الفنون التقليدية والثقافة والمهارات التي لها صلة بنمط الحياة السائد عن طريق انتقالها عبر الأجيال.
وعلى الرغم من تلك الأهمية الجليلة للحرف اليدوية، إلا أنها تواجه تحديات عديدة في العصر الحديث تعوق استمراريتها والمحافظة عليها وتحد من إنتاجها بشكل يسير، ومن بين تلك المعوقات التنافس الشديد بسبب التطور التكنولوجي وظهور الصناعات الحديثة المصنعة آلياً وليس يدوياً، مما كان له الدور الأساسي في تهميش وإضعاف الإقبال على الصناعات اليدوية الأصلية، واستبدالها بتصاميم أجنبية بديلة أقل تكلفة وأقل في المجهود وأكثر سرعة في الإنتاج، ومن بين التحديات أيضاً تلاشي الهوية الثقافية، وانعدام الاهتمام بالحرفيين وتهميشهم، وعدم وجود هيئة أو جهة تمثلهم خير تمثيل من أجل دعمهم ومساعدتهم وتشجيعهم، مما أدى إلى عزوف الشباب عن امتهان الحرف اليدوية بسبب ارتفاع مستوى المعيشة وتغير متطلبات الحياة، كما نلاحظ تغير نظرة المجتمع نحو ميله للصناعات غير المحلية لتواكب الذوق العام الجديد للمجتمع المعاصر.
وبالرغم من تلك التحديات المذكورة، لا نستطيع تجاهل قوة وقيمة الحرف اليدوية كونها حلقة وصل متينة في ربط الأجيال ببعضها البعض عن طريق توارث وتناقل العادات والتقاليد والمهن التي امتاز بها أجدادنا وأسلافنا، ليتفاخر بها جيلنا الواعد ليشهد عظم التطور الحضاري الذي كان يمثله أسلافنا آنذلك، لأن تميز الأمم بموروثها الغني يعد بصمة فريدة يتباهى ويتماجد بها بين المجتمعات الأخرى، فهي تمثل الحلقة الأقوى لتربط أواصر وثوابت الثراء والتمدن الحضاري.
والحرف اليدوية تمتلك بعداً ثقافياً مديداً يحاكي الأفق، ولها لغة محكية تضج بكلمات الجمال وحروف الإبداع الفني عمّا أثمرته أفواه الأجداد والأسلاف والعقول النيرة، لتتبارك أيديهم بما آثرت أن تكون شاهد عيان يروي التمدن العقلي والفورة الفكرية والمعتقدات البارعة والتدبر المخطط في إنتاج آسر لفت الأنظار وسلب العقول لمهارة الابتكار والإتقان في حرف وصناعات يدوية ملأها عبق الإتقان الفني البارع من تاريخ وصيت عريق يتناقل عبر الأزمان، ويضج بنفحات التطور من حقبات مضت شهدتها الأجيال لتتفاخر وتتخذها هوية وطنية تحملها نحو المستقبل.
ومن المنطلق الجمالي، استحوذت الحرف اليدوية الأصيلة على رؤية بصرية وفن ابتكاري، واستأثرت أن تكون سلاحاً وطنياً يتجول بخفة بين المطارح الثقافية والفنية، ولتستحق بجدارة أن تتزين بها جدران أزقة المعارض وبين أروقة المتاحف بجمال عناصرها الخلابة، لتكون سيدة الموقف في الثبات الثقافي الشامخ تتناظره الأعين بين الأفراد والأجيال الواعدة، ليكون العلامة الفارقة والسمة الجميلة للفت الأنظار بكل فخر، عندما تنقل ما أورثته الحضارة المزدهرة الراقية.
فالمجتمع يقع عليه عاتق المسؤولية الكاملة في تبني المحافظة على إرث الحرف اليدوية من الاندثار وتوثيقها خير توثيق، ووضعها في الأماكن الخاصة الملائمة لتكون الملهمة في زيادة الوعي للفكر العام، وزيادة المعرفة عن طريق تنظيم برامج تدريب مهنية وورش عمل للتطوير الفني، في توعية الجيل المعاصر والمساعدة في امتهان المهن اليدوية وزيادة الإدراك المعرفي لديهم في إنتاج تصاميم متنوعة ومختلفة، كما عليه أن يقيم مشاريع توثيقية وتقديم المساعدة المالية للقيام بأنشطة تروج جمال منتجات الحرف اليدوية.
ختاماً، الحرف اليدوية أدوات باهظة الثمن، ولا تقدر بقيمة، لأنها تحمل نهجاً إيجابياً مشرقاً ببشارات الاستثمار اليافع والإبداع الفني المثمر، وهي رمز الهوية الوطنية وتحمل الإرث الثقافي المشرق الذي تأتي ثماره على مر العصور والعقود من أجل المحافظة على بنية المستقبل الواعد، وصورة الغد اللامع.

ذو صلة