مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

القصة الشعرية في الشعر الجاهلي .. قصة الثور مثالاً

في مقاييس اللغة (القاف والصاد أصل صحيح يدل على تتبع الشيء. من ذلك قولهم: اقتصصت الأثر، إذا تتبعته. ومن ذلك اشتقاق القصاص في الجراح، وذلك أنه يفعل به مثل فعله بالأول، فكأنه اقتص أثره. ومن الباب القصة والقصص، كل ذلك يتتبع فيذكر).
من خلال هذا التعريف اللغوي للقصة استنبط العرب التعريف الاصطلاحي المعروف الآن كما جاء في جمهرة اللغة ولسان العرب (القص فعل القاص إذا قصَّ القصص، والقصة معروفة. ويقال: في رأسه قصة يعني الجملة من الكلام، ونحوه قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) أي نبين لك أحسن البيان. والقاص: الذي يأتي بالقصة من قصها. ويقال: قصصت الشيء إذا تتبعت أثره شيئاً بعد شيء).
من هذا يتضح أن القصة تعتمد على السرد والسبك الذي هو النسج عن طريق تتابع الأحداث وتواليها، من هنا يجب توافر عنصرين في السرد وهو الراوي والحدث، والراوي قد يكون شاعراً في بعض الأحيان، يروي قصته أو الأحداث التي عاشها أو رآها أو تخيلها عن طريق الشعر، وهذا من ضمن أنواع الشعر، فقد اتفق أكثر الباحثين على أن الشعر أربعة أنواع: الغنائي، الملحمي، القصصي، التعليمي.
الشعر الغنائي هو الأكثر، ويسمى بالذاتي أو الوجداني؛ لأنه يعبر عن عواطف الشاعر وأحاسيسه، وسمي غنائياً؛ لأنهم كانوا يتغنون به، والشعر الملحمي هو المعبر عن قصة شعرية قومية طويلة تصور وقائع معينة مثل الإلياذة لهوميروس، أما الشعر القصصي فهو الذي يقص قصة معينة أو وقائع عايشها الشاعر، أو استلهمها من وحي خياله، والشعر التعليمي هو الشعر الذي يهدف إلى الارتقاء بسلوك الإنسان وتعليمه أشياء معينة.
والشعر الغنائي هو الأغلب، ومعظم الشعر العربي يندرج تحت هذا النوع، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى تفصيل، فإن الشعر الجاهلي وإن كان يندرح تحت الشعر الذاتي إلا أنه يحتوي على جميع أنواع الشعر الأخرى كالشعر القصصي المتجلي في علاقاته بما حوله، وما نتج عن ذلك من مواقف وأحداث، والتعليمي المصور في الحكم والمواعظ وخبرات العرب، والملحمي المتمثل في المعارك والحروب التي خاضها العربي، فالشاعر العربي على الرغم من تعبيره عن ذاته وتجاربه الشخصية إلا أنه لم ينسَ بيئته وهو ابنها وما حدث ويحدث فيها من قصص وأحداث ووقائع، بل إن الشاعر العربي في تفاعله وتعامله مع البيئة وما يوجد فيها من كائنات ومخلوقات أثمرت عن وقائع وقصص معينة سردها في شعره وقصائده التي تغنى بها العرب على مر العصور.
وظهر عن هذا النوع المسمى بالشعر القصصي مصطلح القصيدة السردية، وهي جامعة بين خصائص الشعر والسرد، وهي تلك القصيدة التي تؤسس وتبنى على السرد، وفيها النص الشعري يتضمن حكاية أو أحداثاً حقيقية أو خيالية تتعاقب وتتابع تشكل موضوع الخطاب، وهذا موجود في الشعر الجاهلي بكثرة، فنجد مثلاً قصص الناقة، وثور الوحش والفرس والظبي والظليم والبقرة والحمار والقصص الغزلية قد التزم بها الشعراء في قصائدهم ولكن بتفاوت معين مع التركيز على جانب معين قد يطول وقد يقصر، ولكنه على كل الأحوال يعد قصة فيها كل مقومات القصة ولكن عن طريق الشعر. وتأتي قصص ثور الوحش في الشعر العربي منفذاً من منافذ الشاعر الجاهلي؛ ليعبر بها عن تجربته الشعرية، وعن الصراع المحتدم بينه وبين بيئته، فالثور رمز السرعة والقوة والشدة وصبره على تحمل الظروف القاسية كما هو الشاعر في تلك البيئة القاحلة الشديدة الوعرة، فبينهما تشابه كبير، وهذا ما حدا بهم إلى ذكر قصصه في أشعارهم، من بين هؤلاء امرئ القيس، وهو كما قال الجاحظ أول من نهج سبيل الشعر، وسهل الطريق إليه، وقد جاءت قصة الثور عند امرئ القيس في قصيدتين، القصيدة الأولى من بحر الطويل، يقول فيها:
أمَاوِيَّ! هَلْ لي عِنْدَكُم من مُعرَّسِ
أمِ الصرْمَ تختارِينَ بالوَصْل نيأسِ
أبِيني لَنَا، إنّ الصَّريمَةَ رَاحَةٌ
من الشكّ ذي المَخلوجةِ المُتَلَبِّسِ
كأني وَرَحلي فَوْقَ أحقَبَ قَارِحٍ
بشُرْبَة أوْ طَافِ بعِرْنانَ مُوجِسِ
تَعَشّى قَلِيلاً ثمّ أنْحَى ظُلوفَهُ
يُثِيرُ الترَابَ عن مَبيتٍ وَمكنِسِ
يَهِيلُ وَيَذْرِي تُرْبَهَا وَيُثِيرُهُ
إثَارَة نَبّاثِ الهَوَاجِرِ مُخمِسِ
فَبَاتَ على خَدٍّ أحَمَّ وَمَنكِبٍ
وَضِجعَتُهُ مثلُ الأسيرِ المُكَرْدَسِ
وَبَاتَ إلى أرْطَأةِ حِقْفٍ كَأنّهَا
إذا ألثَقَتهَا غَبيَة بَيتُ مُعرِسِ
فَصَبّحَهُ عِنْدَ الشُّرُوقِ غُدَيّةً
كِلابُ ابنِ مُرّ أوْ كلابُ ابنِ سِنْبِسِ
مُغَرَّثَةً زُرْقاً كَأنّ عُيُونَهَا
من الذَّمْرِ وَالإيحاء نوّارُ عَضْرَسِ
فَأدبَرَ يَكسُوهَا الرَّغَامَ كَأنّهُ
على الصَّمْد وَالآكامِ جِذوَة مُقبِسِ
وَأيقَنَ إنْ لا قَيْنَهُ أنّ يَوْمَهُ
بذِي الرَّمثِ إنْ ماوَتْنهُ يوْمُ أنفُسِ
فَأدرَكنَهُ يأخُذنَ بالسّاقِ وَالنَّسَا
كما شبرَقَ الوِلدانُ ثوْبَ المُقدِّسِ
وَغَوّرْنَ في ظلّ الغَضَا وَتَرَكْنَه
كقرم الهجانِ الفادرِ المُتشمِّسِ
هنا يفتتح الشاعر قصيدته بالنسيب بينه وبين أماوي، ويسألها عن مكان للتعريس والإقامة أم تختار القطع والهجر والصرم، ويطلب منها أن تبين ذلك القطع ففي هذا راحة له، ثم يستطرد إلى قصة الثور يقول:
كأني وَرَحلي فَوْقَ أحقَبَ قَارِحٍ...
والأحقب هو الثور الوحشي، متحدثاً عن مبيت الثور تحت شجرة الأرطى، ومداهمة الكلاب له في الصباح وهروبه دون الاشتباك معهم، وفي هذا المشهد يبين الشاعر التشابه بينه، وبين الثور من حيث حالته النفسية، فهزيمة الثور في نهاية القصة من الكلاب تصور حالة الشاعر النفسية، وتتوافق مع مفتتح القصيدة المبين للشك والريبة من موقف الحبيبة منه، والتي توحي أن الشاعر يريد تبين حالة القبائل وموقفهم معه من استعادة ملكه، وبهذا يتوحد الموقف النفسي في القصيدة بين الشاعر والثور.
القصيدة الثانية، يقول فيها:
يبغي بهن أخو بيداء عودها
مشمر عن وظيف الساق منتقب
حتى إذا قال نالته سوابقها
غضف جواهل في أشعارها زبب
أنحى عليهن طعناً في جواشنها
بمستقيمين في رأسيهما ذرب
فانصعن عنه وعن قعصاء أثبتها
منه بناقذة نجلاء تنثعب
هنا بين الشاعر مشهد القتال بين الكلاب والثور، والذي ينتهي بانتصار الثور، وفي هذا تشابه بينهما ففيه اعتزاز الشاعر بنفسه وبقوته وفخره بأصله.
ومن بين الشعراء الجاهليين الذين استلهموا ببراعة قصة الثور في أشعارهم النابغة الذبياني، وقد أجاد في وصف قصته كما جاء في ديوانه في قصيدته التي مطلعها:
عوجوا، فحيوا لنعمٍ دمنةَ الدارِ،
ماذا تحيونَ من نؤيٍ وأحجارِ؟
وهي من بحر البسيط التام، قال فيها عن قصة الثور:
كأنّما الرّحلُ منها فوقَ ذي جُدَدٍ
ذبَّ الريادِ، إلى الأشباحِ نظارِ
مُطَرَّدٌ، أفرِدتْ عنْهُ حَلائِلُهُ
من وحشِ وجرةَ أو من وحش ذي قارِ
مُجَرَّسٌ، وحَدٌ، جَأبٌ أطاعَ له
نباتُ غيثٍ، من الوسميّ، مبكارِ
سَراتهُ، ما خَلا لَبانِه، لَهقٌ
وفي القوائمِ مثلُ الوشمِ بالقارِ
باتَتْ له ليلَةٌ شَهباءُ تَسفعُهُ
بحاصبٍ، ذاتِ إشعانٍ وأمطارِ
وباتَ ضيَفاً لأرطاةٍ، وألجأهُ
مع الظّلامِ، إليها وابلٌ سارِ
حتى إذا ما انجلَتْ ظلماءُ لَيلَتِهِ
واسفرَ الصبحُ عنهُ أيّ إسفارِ
أهوى له قانصٌ، يسعى بأكلبهِ
عاري الأشاجع، من قُنّاصِ أنمارِ
مُحالفُ الصيّدِ، هَبّاشٌ، له لحمٌ
ما إن عليهِ ثيابٌ غيرُ أطمارِ
يسعى بغضفٍ براها، فهي طاويةٌ
طولُ ارتحالٍ بها منهُ، وتسيارِ
حتى إذا الثّوْرُ، بعد النُفرِ، أمكَنَهُ
أشلى، وأرسلَ غضفاً، كلها ضارِ
فشكّ بالروقِ منه صدرَ أولها
شَكّ المُشاعِبِ أعشاراً بأعشارِ
ثمّ انثنى، بعدُ، للثاني فأقصدهُ
بذاتِ ثغرٍ بعيدِ القعرِ، نعارِ
وأثبَتَ الثّالثَ الباقي بنافِذَةٍ
من باسِيل عالم بالطّعنِ، كرّارِ
تلك الأبيات نموذج مكتمل لقصة الثور، لو تأملنا تلك الأبيات لوجدنا نمطاً فريداً للسرد القصصي من حيث الزمن والمكان والشخصيات والصراع المحتدم بل الصراعات، ثم الانفراجة والحل في نهاية القصة. الأبيات تحكي عن ثور في إحدى ليالي الشتاء ذات البرد القارص والرياح العاصفة، والثور وحيد يجوب الصحراء، وفجأة تتلبد الغيوم، وتشتد الرياح فيلجأ الثور إلى شجرة (أرطأة)؛ ليحتمي من البرد والمطر، ويحفر له كناساً يحتمي به، ويقضي ليلته في كناسه حتى إذا أقبل الصباح يترك الثور كناسه باحثاً عن دفء الشمس، وعن قليل من العشب ليقوم أوده، وبينما هو في حالته تلك إذ يفاجأ بخطر آخر ينشأ عنه صراع محتدم متمثل في صياد وكلابه الضارية، وما إن يحس الثور بالخطر يداهمه حتى يغادر موقعه فيجري، ولكن الكلاب تلاحقه، وتحيط به من كل جانب، وهنا تأخذه الكبرياء والعزة بالنفس ويدخل مع الكلاب في معركة حامية الوطيس، ثم ينجلي غبار المعركة عن فوز ساحق للثور، وهزيمة مدوية للكلاب، تنكشف المعركة عن ثور منتصر، وكلاب منهزمة ما بين مقتول ومثخن بجراح يلعقها بلسانه، ويمضي الثور يزهو بانتصاره وفوزه الساحق.
وتعد هذه القصة من النماذج الفريدة للسرد القصصي في الشعر الجاهلي، تتجلى فيها ملامح القصة من زمان ومكان وشخصيات مختلفة بشرية وحيوانية، وصراع محتدم، بل صراعان صراع مع الطبيعة، وصراع مع الكلاب، ثم انفراجة وزوال الصراع بانتصار بطل القصة وهو الثور.

ذو صلة