مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

المرأة في مرايا محفوظ الأدبية.. قاطرة القيم الاجتماعية وضحيتها

(كيف للمرأة أن تتكلم وهي غير موجودة في الكلام؟)
منذ ما يقرب من مئة عام، طرحت الأديبة الشهيرة مي زيادة هذا السؤال حول هيمنة اللغة الذكورية في الإنتاج الثقافي العالمي. وهو سؤال في غاية الأهمية، لأنه يعكس الخلل في طرح قضايا تخص المرأة ولكن من دون أن تعبر هي عن نفسها وقضاياها خلال تلك الفترة التي هيمن فيها الخطاب الذكوري بشكل تام تقريباً.
وحين أتأمل أعمال الكاتب الرائد نجيب محفوظ بشكل شخصي أجد فيها صدى كبيراً لهذا السؤال، بل أكاد أقول إن أعمال محفوظ هي في مجملها صياغة لهذا السؤال وإجابة عنه في الوقت نفسه.
فالمرأة لها دور كبير في أغلب أعمال محفوظ، قدم خلالها نماذج المرأة المصرية من كافة فئات المجتمع وفي حالاتها المختلفة، أماً وابنة وزوجة وأرملة ومطلقة ولعوباً وغانية وامرأة عاملة ومثقفة أو أمية.
لكن اللافت أنه على تعدد نماذج المرأة في أعمال محفوظ فهي لم تلعب دور البطولة الرئيس في أغلب الروايات، وصحيح أن صوتها موجود ومسموع بشكل أو بآخر، لكنه صوت يعاني من نوع ما من الكبت أو القمع. صوت يهمس أحياناً، أو يُقمع فيغدو صمتاً أو عدماً، أو أن يبدو عالياً مسموعاً لكنه لا يُسمع إلا عبر صوت رجل.
وفي أغلب أعمال محفوظ، على تنوع موضوعاتها والشخصيات التي تتناولها، لا يبدو صوت المرأة مناسباً لافتتاحيات رواياته، ومع ذلك فهناك بضعة أعمال قليلة يمكننا أن نعتبرها استثناءات نادرة بينها بين القصرين، التي تفتتح بملامح بشائر اليوم الذي تعيشه أمينة الشخصية التي رسمها محفوظ باقتدار ليقدم نموذجاً للمرأة المصرية التقليدية في بداية القرن الماضي، وفي المشهد الافتتاحي للرواية أيضاً سيتعرف القارئ على بداية يوم أمينة الذي يبدأ قبيل الفجر في انتظار عودة السيد أحمد عبدالجواد من سهرته الليلية لكي تتأكد من أنه في صحة جيدة وتساعده في الاغتسال وتقديم ما قد يحتاج إليه وحتى يغفو فتبدأ هي في تفاصيل اليوم الجديد مع اقتراب الفجر.
حياة أمينة كلها تقريباً منذ زواجها ومروراً بتوالي توافد أبنائها وبناتها، خديجة وفهمي وعائشة وكمال، بالإضافة لياسين ابن السيد أحمد عبدالجواد من زيجته الأولى، بدت فيها كأنها تعيش بلا صوت أو بلا كلمات. وحين شعرت في مرحلة من مراحل حياتها أن صوتها لا بد أن يسمع كرد فعل على شعور الغيرة والشكوك، حسمت أمها الأمر بنصحها لها:
(لقد تزوجك بعد أن طلق زوجتَه الأولى، وكان بوسعه أن يستردها لو شاء، أو أن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة، وقد كان أبوه مزواجاً، فاحمدي ربنا على أنه أبقاك زوجة وحيدة).
بهذه الشروط التي احتملت بها أمينة حياتها والتي بفضلها امتنع السيد أحمد عبدالجواد عن الزواج بغيرها، عبّر محفوظ عن نموذج شائع للمرأة في مصر القادمة من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، محملة بميراث ثقيل من التقاليد والتعاليم والقيود والأعباء.
وصحيح أيضاً أن الرواية التي تمثل حجر الأساس في الثلاثية السردية التي تعد علامة سردية بارزة في الأدب العربي المعاصر، قد بدأت بصوت أمينة فإن ختامها أيضاً ينتهي بها. وصوتها في الختام لا يظهر إلا بموت السيد أحمد عبدالجواد، أما وفاتها هي فتأتي إعلاناً لختام الرواية وإسدال الستار على أقدار ثلاثة أجيال جسدوا جانباً من حياة طبقة من طبقات مصر على مدى نصف قرن تقريباً.
كأنّ محفوظ يقول إن صوت المرأة لأسباب اجتماعية وثقافية عديدة هو صوت تمت إزاحته لصالح صوت الرجل، بالأدق هو صوت أزاحه الصوت الذكوري، أو أنه الصوت الذي لا يُسمع إلا في غياب الصوت الذي يمثل الثقافة الذكورية.
لكن هذا النموذج لم يكن أبداً النموذج الوحيد للمرأة في مصر في تلك الحقبة، فهناك الجيل اللاحق أي جيل البنات من هذه الطبقة، مثل خديجة وعائشة، ولكن صوتهما لا يسمع إلا إذا كانتا منفردتين تتناقران، أو تتحدثان في شؤون الزواج مع أمهما، في غياب رجال البيت جميعاً.
وهناك نماذج أخرى أيضاً ممن خرجن عن الشكل النمطي لهذه المرأة مثل طليقة زوجها أم ياسين المزواجة، وعلى الرغم من تأثيرها الطاغي على ابنها ياسين، وإحساسه بالمهانة بسبب زيجاتها المتوالية من رجال أصغر منها عمراً، فإننا لن نعرف عنها شيئاً، أو بالأحرى لن نسمع صوتها إلا عبر مخيلة وذاكرة ياسين وصوته.
في الثلاثية أيضاً ثمة أصوات لنساء من العوالم المهمشة، بينها طبقة الغواني اللائي تمتعن بالحرية والخروج عن التقاليد الشائعة آنذاك، وهناك مريم، الفتاة التي أحبها فهمي، وأمها، وهما نموذجان نقيضان تماماً لأمينة، ولبناتها أيضاً، ويمثلان نمطاً مما يعرف بالمغرور الرومانسي، بتعبير الناقد الفرنسي رينيه جيرار، الذي (لا يريد أن يكون من مريدي أحد وهو يظن نفسه أصيلاً إلى أبعد حد). فيتحول من مخلوق أصيل إلى نسخة مقلدة، نسخة باهتة وممجوجة وسطحية، وهذا هو الطريق الخاطئ الذي أفرغ الإنسان المعاصر من محتواه، وجعله يعاني من الخواء والتصحر الروحي.
لكن مريم، لا تعبر عن نفسها بأي شكل، بل يقدم السرد صورتها كضحية للغرور الرومانسي عبر أصوات كل من فهمي وياسين والسيد أحمد عبدالجواد وكمال لاحقاً.
ومرة أخرى سيلفت انتباهنا باستمرار أن الأسئلة الوجودية الكبرى عن حقيقة الحياة وأسئلة الوجود ستطرح دائماً من خلال شخصية الرجل، أكانوا أبطال العملين الملحميين مثل الحرافيش وأولاد حارتنا، أو بعض رموز الأعمال السردية مثل كمال في الثلاثية. أو جعفر الراوي بطل في قلب الليل أو حتى سعيد مهران في اللص والكلاب.
وحتى المرأة التي تعد نموذجاً للبطولة في رواية مثل ميرامار، وهي زهرة العاملة في البنسيون، فهي مركز الجاذبية لكافة الرواة، أي أن تقديمها سيتم من خلال أصوات الرجال من سكان البنسيون، كأن ظهورها أو وجودها مقصور على رؤية الرجال لها. ولهذا لا نجد لها صوتاً بين أصوات الرواة. فصوت زهرة لا وجود له إذا لم ينطق بوجوده الرجال الذين عرفوها. عامر وجدي، سرحان البحيري، منصور باهي، وطلبة مرزوق. طبعاً العلاقات المتشابكة لرواد البنسيون، على اختلاف تكويناتهم وأسباب وجودهم في البنسيون، معها تكشف النماذج الذكورية وتقدم نقداً إضافياً للثقافة الذكورية، لكن محفوظ يضيف لذلك الالتفاتة الخاصة بقمع صوتها لصالح الأصوات الذكورية.
المفارقة هنا أن زهرة بوجودها في البنسيون تعيش الحياة كما تفضلها. فتهرب من القرية التي كانت تعيش فيها حتى لا تتزوج رجلاً أكبر منها في العمر فرضه عليها جدها، وهي تهرب من المجتمع الذكوري الذي يريد أن يفرض عليها ما يريده لها، بل ويبلغ حد تهديدها بالقتل، لذلك تقرر الهروب وتتخلى عن الأرض التي تمتلكها، لتعمل في بنسيون، لكي لا تعيش حياة لا تريدها.
المرأة المتسلطة بلا صوت أيضاً
ومن النماذج التي تكررت للمرأة في أكثر من عمل لمحفوظ نموذج الأم المتسلطة، التي يرتبط بها الابن، بشكل شبه مرضي، ويتعلق بها تعلقاً يؤثر على كل حياته ويجعل منه ضحية، في بعض الحالات، أو ضحية ومجرماً في الوقت نفسه. وعلى الرغم من الطابع السلطوي لهذه النماذج النسائية فإننا لن نعرف شيئاً عنها أو بالأحرى لن نسمع صوتها إلا عبر صوت الابن.
هذا النموذج يتجسد في امرأة غالباً ما تتمتع بنوع من الأنانية التي تغدو لدى بعض النماذج سبباً للتعامي عن قيم كثيرة بما فيها قيمة الأمومة، وهو ما تكرر في أكثر من عمل، سواء في نموذج أم ياسين في الثلاثية، أو أم كامل رؤبة في رواية السراب، أو بسيمة عمران أم صابر الرحيمي، التي خرجت من السجن وماتت في نفس الليلة وتركت ابنها يبحث عن أبيه الذي ظنه ميتاً طوال حياته في رواية الطريق.
هذا النموذج له تأثير عميق على الابن ولكن الصوت في السرد يزيح الصوت الأمومي لكي نسمعه فقط من خلال أثره على الابن.
موقف محفوظ الشخصي
ولا أعتقد أن الأمر يعبر عن موقف من محفوظ تجاه المرأة بالعكس، أعتقد أنه يفعل ذلك على يقين من أن الشكل السردي لا بد أن يعبر عن المضمون. بمعنى أن صوت المرأة المقموع سردياً ليس تعبيراً عن موقف محفوظي تجاه المرأة بل تعبيراً عن واقع، وأما موقفه الحقيقي من المرأة فيمكن أن نتبينه في تعرضه لأغلب نماذج المرأة في مصر على مدى قرن في الطبقات الاجتماعية المختلفة ومن المرجعيات الثقافية المختلفة بما فيها مرجعيات الطبقات الأرستقراطية المتحررة، ونماذج متباينة للعاهرة التي سقطت بسبب ظروفها الاجتماعية من دون أن يموت أملها في أن تجد يوماً زوجاً وتعيش حياة طبيعية، كما نرى مثلاً في زنوبة في الثلاثية، التي كانت صبية عالمة، ثم عشيقة أحمد عبدالجواد، ثم زوجة ياسين، وكذلك نور في اللص والكلاب أيضاً، وغيرها، ومحفوظ يقدم هذه النماذج من دون إدانة أو تقييم.
أما التقييم فيتحقق بواسطة الصوت السردي الذي يختاره محفوظ. ولذلك فإن نماذج المرأة المتحررة التي قدمتها رواية (ثرثرة فوق النيل) التي تمثلها ليلى زيدان الموصوفة بأنها خريجة الجامعة الأمريكية، والمترجمة في الخارجية تجمع بين الجمال والثقافة، وسنية كامل الموصوفة بأنها من بنات الميردي ديو، زوجة وأم، امرأة ممتازة حقاً وفي أوقات الكدر العائلي تعود إلى أصدقائها القدماء. سيدة مجربة عرفت الأنوثة عذراء وزوجة وأماً، ثم سناء الرشيدي طالبة الجامعة الأمريكية، قدمن جميعاً بواسطة المونولوج الداخلي لأنيس زكي سواء من خلال وصفه لما يدور من وقائع أو من خلال تداعيات ذهنه شبه المشوش بين الواقع والحاضر وبين الذهول الشارد في ملكوت الله. وهو بفضل شروده هذا يحقق لوناً من الحياد البارد لوصف المجتمع الذي يعيش فيه. عوامة تعد مكاناً ولا مكان، فهي خارج التصنيف المتعارف عليه للمكان. فلا هي بيت أو شقة، وليست مسكناً ولكنها يمكن أن تكون ذلك كله. وكذلك وضع المرأة فيها، يختلف عما يسود خارجها، ففيها تسود أفكار تعبر عن الشك في القيم التقليدية، وأما القيم الحديثة البديلة فموقعها مثل موقع العوامة، يبدو جديداً وغير مستقر.
صوت المرأة المحفوظي الوحيد
لكن رواية (ثرثرة فوق النيل) ضمت صوتاً ملتبساً هو صوت سمارة بهجت، الصحفية الشابة، بحيث يمكننا أن نسمع رأيها في قضية اجتماعية جوهرية ورؤيتها لمجتمع العوامة. لكنه أيضاً صوت ملتبس لأنها لا تقول ذلك بشكل مباشر بل تكتبه في شكل مسرحية.
فِكرتها تدور عن الجدية في مواجهة العبث. ثم ستقدم ما يشبه (بورتريه) لكل شخصية من شخصيات المسرحية، غير أن القارئ سيفهم أن الشخصيات كلها مستوحاة من شخصيات العوامة. لكنها قبل أن تفعل ذلك ستقدم رؤيتها في موضوع الإيمان والعلم.
صوت المرأة الذي مثلته سمارة بهجت هنا اتخذ أكثر من مستوى، فهو من جهة رؤية للمجتمع المتناقض ومحاولة تشريحه لتأكيد الأسباب التي يعود إلى جانب كبير منها تهميش المرأة في المجتمع، ودلالة على أن المجتمع في مرحلة غير مستقرة، وأن هذا المجتمع الحائر بين الرجعية والأفكار التقدمية مشوش، وأن المرأة التي حصلت على بعض الامتيازات أصبح لها قدرة على فضح هذا التشوش، وصوتها وحده يمتلك القدرة على ذلك لأنه يكشف السلطة الذكورية التي تحتكر القيم السلطوية في المجتمع.
مثلث الرغبة
وبالإضافة لنموذج سمارة بهجت، أتوقف لتأمل ثلاثة نماذج أخرى مما قدمه محفوظ للمرأة وما أراد أن يعبر عنه من خلال هذه النماذج، وهي نفيسة في بداية ونهاية، وحميدة في زقاق المدق، ورادوبيس.
في نظريته المعروفة باسم (مثلث الرغبة) يقترح الناقد والفيلسوف الفرنسي رينيه جيرار، أن رغبة أي فرد تتكون من مثلث أطرافه الراغب وموضوع الرغبة والوسيط. ومن خلال علاقة أطراف المثلث ينشأ الصراع. أي أنه يرى أن موضوع الرغبة قد يكون موضوعاً أصيلاً لدى صاحب الرغبة أو قد يكون رغبة تتولد بسبب وسيط، مثل أن تحب امرأة رجلاً ما لمجرد أن شخصية شهيرة تحبه، أو أن يقوم دون كيشوت بانتهاج نهج الفرسان تأثراً بسيرة فارس قرأ عنه في كتب الفروسية، وهكذا يصل إلى أن هذه الشخصيات رغباتها ليست أصيلة وليست نابعة من رغبة ذاتية تعبر عن فردية حقيقية بل مجرد رغبة مزيفة تندرج في إطار التقليد.
تبدو رادوبيس تقريباً مثل حميدة، كلتاهما شخصية أنثوية لها سمات القوة والتحدي. وكلتاهما ترغبان في النفوذ، وهما أيضاً جاءتا من بيئات فقيرة وبسيطة وبلا انتماء للأسرة في شكلها التقليدي. فكلتاهما فقدتا الأب مبكراً، وأيضاً لكل منهما تلك التناقضات النفسية التي تجعل طموحهما يسبق العاطفة.
رادوبيس فتاة ريفية أحبت نوتيا في صباها ثم اختفى فجأة، فتزوجت ثرياً عجوزاً وورثت أمواله بعد وفاته وقررت أن تستمتع بالحياة معلية قيمة اللذة على ما سواها. لكنها لم تكن غانية عادية، فقد وصل إلى فراشها أصحاب النفوذ والأموال جميعاً، لكنها لم تحب أحداً منهم.
أما حميدة فتعيش مع أمها بالتبني، لا يملأ عينها من رجال الزقاق أحد. أولت حب المال أولوية على ما سواه فقبلت حب عباس الحلو، المتيم بها والذي غادر إلى التل الكبير ليعمل مع الجيش ويدخر ما يمكنه من الزواج منها، لكنها مع أول عرض زواج من رجل ثري تنسى عباس، وحين يمرض الزوج المقترح، تنجذب لمونولوجست وتقع في هواه وتكتشف أنه قواد ومع ذلك تستسلم لعشقه حتى تجد نفسها بغياً وتستسلم.
تطلعات حميدة الطبقية لم تكن تتعلق بوضعها كامرأة تريد أن ترتقي بمكانتها، بما يعنيه ذلك من أن تولي كرامتها الأولية، بل تمثلت في رغبة أساسية وهي الحصول على الأموال بأي وسيلة، ولهذا السبب خرجت الزقاق الذي أصبح مكاناً خانقاً، بكل ما يعنيه لها من فقر وقهر لحريتها ومحدودية في فرص الحياة. لكنها على الرغم مما أبدته من إرادة في أن تحقق ما تريد لم تكن أدركت معنى ارتباط الحرية بالمسؤولية، ولهذا فشلت في تحقيق ما أرادته.
أما في حالة رادوبيس فمن البداية تتضح أن قوتها نابعة من حريتها. تبيع الهوى لمن ترغب وتحب، وتبدو في حالة من الندية مع نخبة المجتمع بكل فئاته، لكنها لا تتزوج أو بالأحرى لا ترتبط بأحد برباط تحت لواء الزواج والعائلة حتى لا تفقد حريتها، لكنها حين تقع في غرام الفرعون، تفقد جانباً من حريتها، بسبب ما تقتضيه الظروف التي تفرضها العلاقة العاطفية مع الملك، وعلى الرغم من ذلك فهي لا تستسلم تماماً ولا تتنازل عن شرطها المتمثل في أن ينتقل الملك الفرعون إلى قصرها، وترفض الانتقال إلى قصره، وتتشبث برأيها حتى النهاية، لأنها لا يمكن أن تكون امرأة كأي امرأة من (حريم الملك).
أما حميدة فرغم ما أبدته من غرور واعتداد بالذات، إلا أن إحساسها بالحرية لا يعبر عن رغبة فردية حقيقية صادقة، فهي على استعداد للتنازل عن حريتها إذا وجدت زوجاً موسراً، بل يمكنها أن تترك هذا أيضاً من أجل حياة براقة لا تعرف حتى أن تحدد ملامحها بدقة، وكأن هذا الصلف مجرد قناع لخواء داخلي لا حدود له.
أما نفيسة فتمثل الضحية المتضاعفة، ضحية ظروفها أساساً كأنثى تخضع لسلطة ذكورية جائرة في بيتها وفي الشارع منعتها من استكمال تعليمها، وضحية ظروفها التي جعلتها دميمة لا يقبل عليها العرسان، ثم ضحية تغير الأوضاع بموت الأب فتصبح هي الطرف الأضعف، تفقد فرصة التعليم، بل وتطالب بمساعدة الأسرة في النفقات، بينما ينكر عليها الجميع حقوقها، وحين تحاول أن تجد حلاً لرغباتها النفسية والجسدية تقع فيما يعتبره المجتمع محظوراً، وتصبح هدفاً آخر للسلطة الذكورية الممثلة في شقيقها حسنين الذي يحكم عليها بالموت غرقاً فتمتثل لكي تنقذ شرف العائلة. نفيسة حالة شديدة الدرامية، لأن الرغبة الوحيدة الحقيقية التي يبدو أنها منقادة إليها هي رغبتها في تدمير ذاتها.
أعتقد بشكل شخصي أن محفوظ انتبه للمرأة كجزء أساسي من المجتمع، قاطرة للقيم، ومختبر لإيجابيات وسلبيات القيم السائدة في المجتمع، ولذلك سنرى الكثير من التناقضات التي تتمتع بها أغلب الشخصيات التي تناولها محفوظ، في نماذج الرجال أو النساء على السواء.

ذو صلة