مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

ابن خلدون في ثلاثة مواقف.. الوفاء لابن الخطيب والإعجاب بتيمورلنك

عاش أبو زيد ولي الدِّين عبدالرَّحمْن بن محمَّد بن محمَّد الحضرميّ المعروف بابن خلدون، وخلدون جده الأعلى، الذي سكن الأندلس؛ حياة ملأى بالحوادث والنتاج الفكريّ، ومحن بليغة، أهمها فقد أسرته بالكامل غرقاً، وهم في طريقهم إليه عبر البحر، حيث إقامته بمصر، وتوليه القضاء فيها، ذكر ذلك بقوله: (مصابي بالأهل والولد، وصلوا من المغرب في السَّفين، فأصابها قاصف مِن الرِّيح فغرقت، وذهب الموجود، والسَّكن (زوجته) والمولود، فعظم المصاب والجزع، ورجح الزُّهد، واعتزمتُ على الخروج عن المنصب). ولد ونشأ بتونس، والأصل من أشبيليَّة، جمعته بلسان الدِّين المعروف بابن الخطيب (ت: 776هـ) التَّلمذة بتونس، عند محمّد بن جابر الوادياشيّ (ت: 1338م)، الذي لقبه ابن خلدون بـ(إمام المحدثين) و(شيخ المسندين)، كان شيخهما معاً.
لابن خلدون كتاب واحد قُسم إلى ثلاثة كُتب: المقدمة، والتَّاريخ، وكتاب التعريف. والتاريخ هو (العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر)، استجزئت مقدمته فعرف بـ(مقدمة ابن خلدون)، وذيل العبر بما عُرف بكتاب (التَّعريف ورحلته غرباً وشرقاً)، هذا أهم ثروته الفكريّة، وله ما يشبه الرّسائل: (شرح البُردة) و(المنطق).
ليس أكثر مِن ابن خلدون احتفاءً مِن قبل المعاصرين، من الغرب والشَّرق، بين موافقين وناقدين: (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) لساطع الحُصريّ (ت: 1968)، و(فلسفة ابن خلدون) لطه حسين (ت: 1973)، و(منطق ابن خلدون) لعليّ الوردي (ت: 1995). ومن الغرب نذكر (العلامة ابن خلدون) لايف لاكوست، المغربي الولادة والفرنسيّ المواطنة (كتبه: 1965)؛ مِن الكُتب الناقدة له، حتَّى اعتبره المؤلف منتحلاً في كل ما جاء في مقدمته. وبالمقابلة بين النُّصوص، (نهاية أسطورة نظريات ابن خلدون مقتبسة مِن إخوان الصَّفا) لمحمود إسماعيل (مصر- المنصورة 1996). كان آخر الكتب التي اطلعنا عليها، وهي مِن الكتب النَّاقدة أيضاً، ولكن نقد لأفكاره السّلفيّة، ونقد لإعجاب المعاصرين به، حتَّى عُد أباً للحداثة العربيَّة؛ كتاب: (حفريّات في الخطاب الخلدونيّ الأُصول السَّلفيَّة ووهم الحداثة) للأكاديميّة التّونسيَّة ناجيّة الوريّمي بو عجيلّة، صدر (2015). هذا والكتب عن ابن خلدون كثيرة وكثيرة جداً. سنقف على ثلاث حوادث، نراها مهمة في حياته، وهي: محنته ومحنة زميله وصديقه ابن الخطيب، وكتابته المقدمة، وصلته بتيمورلنك.
محنة ابن الخطيب ومحنته
كان لسان الدِّين بن الخطيب (قُتل: 776هـ/1474م)؛ صاحباً لصاحب التّاريخ والمقدمة ابن خُلدون (ت: 808هـ/1405م)، وقد كتب عنه الأخير وسماه شهيداً، وكان متهماً بالزَّندقة، التُّهمة المبطنة بالسياسة والحزازة الشَّخصيَّة. كما أفادنا ابن خلدون بخبر محنة صاحبه قائلاً: (أُحضر ابن الخطيب بالشُّورى في مجلس الخاصة، وأهل الشُّورى، وعرض عليه بعض كلمات وقعت له في كتابه، فعَظم عليه النَّكير فيها، فوبخ ونُكل، وامتحن بالعذاب بمشهدِ ذلك الملأ، ثم تُل إلى محبسه، واشتوروا بمقتضى تلك المقالات المسجلة عليه، وأفتى بعض الفقهاء فيه. ودسّ سليمان بن داود إليه لبعض الأوغاد من حاشيته بقتله، فطرقوا السِّجن ليلاً، ومعهم زعانفة جاؤوا في لفيف الخدم، مع سفراء السُّلطان ابن الأحمر، وقتلوه خنقاً في محبسه، وأخرجوا شلوه من الغد، فدفن في مقبرة باب المحروق، ثم أصبح من الغد على شأفة قبره طريحاً، وقد جمعت له أعواد وأضرمت عليه ناراً، فاحترق شعره وأسودّ بشره، وأعيد إلى حفرته).
سعى ابن خلدون لإنقاذ صاحبه ابن الخطيب، لكنَّ سعايته لم تنجح، بل هو الآخر أُغري به السُّلطان ففرَّ ليعتكف بقلعة بني سلامة لأربع سنوات، بعد مقتل ابن الخطيب، أيّ خلال (776 - 780هـ). كتب ابن خلدون عن عظمة صاحبه في المقدمة: (صاحبنا الوزير أبو عبدالله بن الخطيب، إمام النَّظم والنَّثر، في الملَّة الإسلاميَّة بلا مُدافع). كذلك كتب في (التَّعريف): (كان الوزير ابن الخطيب آيةً مِن آيات الله في القلم والأثر، والمعارف والآداب، لا يُساجل مداه).
وقال في محنته بسبب صاحبه، فأخبروا السُّلطان: (أني كنت ساعياً في خلاص ابن الخطيب، وكانوا قد اعتقلوه لأول استيلائهم على البلد الجديد وظفرهم به، وبعث إليّ ابن الخطيب من محبسه مستصرخاً بيَّ، ومتوسلاً، فخاطبتُ في شأنه أهل الدَّولة، وعولت فيه منهم على: ونزمار وابن ماساي، فلم تنجح تلك السَّعاية، وقتل ابن الخطيب بمحبسه، فلما قدم ابن ماساي على السُّلطان ابن الأحمر -وقد أغروه بيَّ- فألقى إلىَّ السُّلطان ما كان منِّي في شأن ابن الخطيب، فاستوحش لذلك، وأسعفهم بإجازتي إلى العُدْوة، ونزلتُ بهُنْين، والجوُّ بيني وبين السُّلطان أبي حَمُّو مظلم... فأوعز بمقامي بهُنْين، ثم وفد عليه محمَّد بن عريف فعذله في شأني، فبعث عنِّي إلى تلمسان، واستقررت بها بالعُبَّاد، ولحقَ بي أهلي وولدي من فاس، وأقاموا معي، وذلك في عيد الفطر سنة ست وسبعين (وسبعمائة)، وأخذت في بثِّ العلم، وعرض للسلطان أبي حمَّو أثناء ذلك رأي في الدَّواودة، وحاجة إلى استئلافهم، فاستدعاني، وكلفني السَّفارة إليهم في هذا الغرض، فاستوحشت منه، ونكرته على نفسي، لما آثرته مِن التَّخلَّي والانقطاع، وأجبته إلى ذلك ظاهراً، وخرجتُ مسافراً من تلمسان حتَّى انتهيت إلى البطحاء، فعدلت ذات اليمين إلى مَنداس، ولحقت بأحياء أولاد عريف قِبلة جبل كُزُول، فتلقوني بالتَّحَفَّي والكرامة، وأقمت بينهم أياماً حتَّى بعثوا عن أهلي وولدي مِن تلمسان، وأحسنوا العذر إلى السَّلطان عني في العجز عن قضاء خدمته، وأنزلوني بأهلي في قلعة ابن سلامة مِن بلاد بني توجين، التي صارت لهم بإقطاع السُّلطان، فأقمت بها أربعة أعوام، متخلياً عن الشَّواغل كلِّها، وشرعت في تأليف هذا الكتاب (كتاب العبر)، وأنا مقيم بها، وأكملت المقدمة منه، على ذلك النَّحو الغريب، الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر، حتى امتخضت زبدتها، وتألفت نتائجها، وكانت من بعد ذلك الفيئة إلى تونس كما نذكره).
ما يُستشف مِن تلك الصُّحبة أنّ الرَّجل كان وفياً، وتحمل المحنة دون أن يتنكر لصاحبه، وكانت الصِّلة بابن الخطيب لها ثمنها، ولو أراد أنّ يحتل مركزاً كالوزارة مثلاً ما استعصت عليه، بدلاً مِن الاعتكاف والنَّفي، وبعده ترك الوطن إلى مصر.
الإعجاب بتيمورلنك الرَّهيب
كان اسم تيمورلنك جباراً رهيباً، مِن سلالة مغوليَّة، وما جرى على البلدان التي احتلها؛ بينما ابن خلدون المؤلف والقاضي، ووفق مصطلحات زماننا يُشار إليه بالمثقّف، فماذا بينه وبين تيمورلك؟ المشار إليه قبل قيادة العساكر بقاطع الطَّريق، الكثير الإيذاء، وبسبب ذلك فقد رجله، فأضيف إلى اسمه (لنك)، ليكون تيمور الأعرج، وقد اشتهر بهذا الاسم، وكان قد ولد السَّنة (728هـ) بقرية (خواجا أيلغار)، وقيل كان يحلم أنْ يملك الأرض.
تحدث ابن خلدون عن لقائه بتيمورلنك، ومِن كلامه أنْ تيمور كان قد سمع به قبل أن يقف بين يده في مخيمه، التقى به (السَّنة 803هـ)، عندما غزا الشَّام، ولم يدخل دمشق، خيم على أطرافها، حتَّى انهارت وهي محاصرة، فسلمت له صُلحاً. كان سُلطان مصر والشَّام، الملك النَّاصر فرج بن الظَّاهر برقوق (حكم مصر 801 وتوفي 815هـ)؛ قد تحرك مِن مَصر إلى الشَّام، وأراد ابن خلدون معه، فحاول الأخير الاعتذار، ولكن حسب ما يرويه: (ثم أظهر العزم عليَّ بليَّن القول، وجزيل الإنعام، فأصخيتُ وسافرت معهم، منتصف شهر المولد النَّبويّ سنة ثلاث (803هـ)، فوصلنا غزَّة، فأرحنا بها أياماً نترقب الأخبار، ثم وصلنا إلى الشَّام مسابقين الطَّطر (التتر)، إلى أنْ نزلنا شقحب، وأسرينا فأصبحنا بدمشق، والأمير تمر في عساكره قد رحل مِن بعلبك قاصداً دمشق).
عاد السُّلطان مِن دمشق وتركها لتيمورلنك، ولم يعد معه ابن خلدون، فظل ينتظر مع فقهائها، حتَّى صار الرَّأي الاستسلام مقابل الأمان. بعدها يقول ابن خلدون عن لقائه بتيمورلنك: (أخبرني القاضي برهان الدِّين، أنه سأله عنّي، وهل سافرت مع عساكر مصر، أو أقمت بالمدينة؟ فأخبره بمقامي بالمدرسة (المدرسة العادليَّة) حيث كنت، وبتنا تلك اللَّيلة على أهبة الخروج إليه، فحدث بين بعض النَّاس تشاجر في المسجد الجامع، وأنكر البعض ما وقع من الاستنامة إلى القول. وبلغني الخبر مِن جوف اللّيل، فخشيت البادرة على نفسي، وبكرت سحراً إلى جماعة القضاة عند الباب، وطلبت الخروج، أو التدلّي من السّور، لما حدث عندي من توهّمات ذلك الخبر، فأبوا عليّ أولاً، ثم أصخوا لي، ودلّوني من السُّور، فوجدتُ بطانته عند الباب، ونائبة الّذي عيّنه للولاية على دمشق، واسمه شاه ملك، مِن بني جقطاي أهل عصابته، فحيّيتهم وحيّوني، وفدّيت وفدّوني، وقدّم لي شاه ملك، مركوباً، وبعث معي مِن بطانة السّلطان من أوصلني إليه. فلما وقفت بالباب خرج الإذن بإجلاسي في خيمة هنالك، تجاور خيمة جلوسه، ثم زيد في التَّعريف باسمي أنّي القاضي المالكي المغربي، فاستدعاني).
(ودخلت عليه بخيمة جلوسه، متكئاً على مرفقه، وصحاف الطّعام تمرّ بين يديه، يشير بها إلى عصب المغل جلوساً أمام خيمته، حلقاً حلقاً. فلما دخلت عليه، فاتحت بالسّلام، وأوميت إيماءة الخضوع، فرفع رأسه، ومدّ يده إليّ فقبّلتها، وأشار بالجلوس فجلست حيث انتهيت. ثم استدعى مِن بطانته الفقيه عبدالجبّار بن النّعمان من فقهاء الحنفيّة بخوارزم، فأقعده يترجم ما بيننا، وسألني: من أين جئت مِن المغرب؟ ولِم جئت؟ فقلت: جئت مِن بلادي لقضاء الفرض (الحج) ركبت إليها البحر، ووافيت مرسى الإسكندرية يوم الفطر، سنة أربع وثمانين (وسبعمائة) من هذه المائة الثَّامنة، والمفرحات بأسوارهم لجلوس الظّاهر (ملك مصر)، على تخت الملك لتلك العشرة الأيام بعددها. فقال لي: وما فعل معك؟ قلت كلَّ خير، برّ مقدمي، وأرغد قراي، وزوّدني للحجّ، ولما رجعت وفّر جرايتي، وأقمت في ظلّه ونعمته، رحمه الله وجزاه).
مكث ابن خلدون عند تيمورلنك فترة غير قليلة، كلفه أن يكتب له تقريراً عن بلدان المغرب كافة، وعن أحوالها، فأنجزه له، وهو مقيم عنده. نفهم مِن هذا الطَّلب، كأن تيمورلنك ينوي غزو المغرب وشمال أفريقيا، قال له: (وأحبّ أنْ تكتب ليّ بلاد المغرب كلّها، أقاصيها وأدانيها، وجباله وأنهاره وقراه وأمصاره، حتَّى كأني أشاهده. فقلت: يحصل ذلك بسعادتك، وكتبت له بعد انصرافي مِن المجلس لما طلب من ذلك، وأوعبت الغرض فيه في مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشرة مِن الكراريس المنضفّة القطع).
الأكثر مِن هذا؛ هل كان ابن خلدون على هذا المستوى مِن الانتهاز والنِّفاق، أم أنه بالفعل قد أُعجب بتيمورلنك؟ فنجده يقول له: (أيّدك الله! لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنّى لقاءك. فقال لي التّرجمان عبدالجبّار: وما سبب ذلك؟ فقلت: أمران، الأول أنك سلطان العالم، وملك الدّنيا، وما أعتقد أنه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك).
قبل أن يغادره مرَّ على سوق الكُتب واشترى مُصحفاً رائعاً، وسجادة أنيقة، ونسخة مِن قصيدة (البُردة) للأبوصيريّ (ت: 694هـ)، وأربع علب حلاوة. طلب منه طلبات خاصة به، كما طلب كتاب أمان لمَن تخلف بالشَّام، وكانوا بخدمة سلطان مصر، فكتب له أماناً للجميع.
إشكاليَّة كتابة المقدمة
في أخذ ابن خلدون مِن رسائل إخوان الصّفا؛ تجدر الإشارة إلى أنَّ الرّسائل قد وصلت الأندلس وانتشرت هناك، ولا بد أنه اطلع عليها، فهذا صاحب كتاب (طبقات الأمم) القاضي صاعد الأندلسي (ت: 462هـ/1062م)؛ نقرأ عنده في ترجمة الرياضي والمهندس والطَّبيب أبو الحكم عمرو بن عبدالرَّحمْن الكرماني (ت: 458هـ/1066م) الآتي: (رجع إلى الأندلس، واستوطن مدينة سرقسطة من ثغرها، وجلب معه الرّسائل المعروفة برسائل إخوان الصّفا، ولا نعلم أحداً أدخلها الأندلس قبله).
حين كتبتُ (1993) مقالاً متواضعاً بعنوان (من مبدع نظرية النّشوء والارتقاء)؛ لم يدر بخلدي أن مقدمة ابن خلدون هي كل ميراثنا الفكري والفلسفي، حسب الرّدود التَّي صبت ضد النّاقدين أو القائلين بفضل إخوان الصّفا على مقدمة ابن خلدون. في مقالتي تلك، لم أعترض على صاحب المقدمة، إلا لأنه أخذ أفكاراً بالجملة، نصاً ومعنىً، من رسائل الإخوان دون الإشارة إليهم، كإشارته لأرجوزة ابن سينا مثلاً، أو للمؤرخين الذين أخذ عنهم. ورد في المقال: (بعد أربعة قرون، يورد ابن خلدون نظرية إخوان الصّفا في مقدمته، مؤكداً نظرية العناصر الأربعة في تكوين الوجود والتَّدرج الطّبيعي في النّشوء والارتقاء، ومن الواضح أنه لم يضف شيئاً جديداً على أفكار إخوان الصّفا التي وردت في رسائلهم...).
بعد إعادة قراءة المؤلفين (المقدمة والرّسائل)، والمقابلة بين أهم الأفكار التي وردت فيهما؛ تأكد لي أنَّ للرسائل حضوراً قوياً في المقدمة، أكثر من الاقتباس والتَّأثر إلى الانتحال. وأسهمت في النّقاش الذّي تفجر (1996 - 1997) في بحث كنتُ نشرته في جريدة (الحياة) تحت عنوان (ظلال رسائل إخوان الصّفا وارفة على أسلوب ومكونات المقدمة الخلدونية).
يذكر ابن خلدون في أكثر من مكان في كتابيه (المقدمة) و(التَّعريف) أنه توصل إلى أفكاره المطروحة في المقدمة عن طريق الإلهام غير المسبوق بمؤثر. قال: (أنزلوني بأهلي في قلعة ابن سلامة من بلاد بني توجين التَّي صارت لهم بإقطاع السّلطان، فأقمت بها أربعة أعوام متخلياً عن الشّواغل كلها، وشرعت في تأليف هذا الكتاب، وأنا مقيم فيها، وأكملت المقدمة على ذلك النّحو الغريب، الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر، حتى امتخضت زبدتها، وتألفت نتائجها، وكان من بعد ذلك الفيئة إلى تونس كما نذكره).
كانت الأربعة أعوام لكتابه التَّاريخ (العبر) كاملاً، أما المقدمة فيقول في خاتمتها: (أتممت هذا الجزء الأول بالوضع والتَّأليف، قبل التَّنقيح والتَّهذيب، في مدة خمسة أشهر، آخرها منتصف عام تسعة وسبعين وسبعمئة، ثم نقحته بعد ذلك، وهذبته وألحقت به تواريخ الأمم، كما ذكرت في أوله وشرطته: وما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم).
وتراه يقول في كتابه ككل (العبر لا المقدمة فقط): (لما طالعت كتب القوم، وسبرت غور الأمس واليوم، نبهت عين القريحة من سنة الغفلة والنّوم، وسمت التَّصنيف من نفسي، وأنا المفلس أحسن السّوم. فأنشأت في التَّاريخ كتاباً، رفعت به عن أحوال النّاشئة من الأجيال حجاباً، وفصلته في الأخبار والاعتبار باباً باباً، وأبديت فيه لأولية الدّول والعمران عللاً وأسباباً... وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكاً غريباً، واخترعته من بين المناحي مذهباً عجيباً، وطريقة مبتدعة وأسلوباً).
علّق ساطع الحصري (ت: 1968) على ما أورده ابن خلدون مِن سيولة شآبيب الكلام، بقوله مؤيداً لا مستغرباً: (تدفق مفاجئ بعد حدس باطني واختمار شعوري). فحسب الحصري أن ابن خلدون لم يقلْ ذلك من باب الفخر بل (من التَّدفق الفجائي الذي يحمل المفكر على التَّعجب من نتائج تفكيره). ويوافق علي الورديّ (ت: 1995) رأي الحصريّ؛ معتقداً بالقوة الخفية التَّي أنجزت المقدمة. قال: (هناك قرائن تدل على أنَّ ابن خلدون كتب المقدمة تحت تأثير مفاجئ مِن فيض الخاطر).
قال الورديُّ ذلك، على الرّغم من أنه لا يؤمن بالخوارق، ولا بوجود وادي عبقر مكاناً للإلهام على الحقيقة، فكيف تكون الفلسفة عنده مجرد فيض خاطر؟! فهل هي رسم وشعر، أم منطق ودراسة وبحث؟ فالمنطق السّليم يقول: إنّ حالة العلم والفكر لا تعرف غير التَّدرج والتَّأهيل، وإلا كان وراء كتاب المقدمة معجزة أو كرامة ما، وتلك لا تكون لابن خلدون، فالرّجل لم يطرح نفسه مِن بين أصحاب الكرامات.
يُعد الحصريّ أحد أفضل الدّارسين لمقدمة ابن خلدون، على الرَّغم مِن تقديسه لمؤلفها، فهو الذي بادر إلى إعادة نصوص المقدمة المحرّفة إلى الأصل، الذّي يتطابق مع رسائل إخوان الصّفا، ومنها التفاتته الذّكية التَّالية - إذا لم أكن مخطئاً هو الأول الذّي تنبه إليها: (مِن الغريب أن الطّبعات الشّرقية مسخت تعبير عالم القِردة، إلى شكل عالم القدرة، وجردت بهذه الصّورة الفقرة الأخيرة المذكورة من معناها الهام، كما حرمتها مِن كلِّ معقول، إذ ليس في استطاعة أحد أنْ يستخرج أيّ معنى كان مِن عبارة تنص: أنَّ أنواع الحيوان ترتفع إلى الإنسان مِن عالم القدرة، الذّي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم تنتهِ إلى الرّوية والفكر والفعل)؛ ففي الرّسائل جاءت الكلمة قرد وليس قَدر. بعدها، أخذ الباحثون يذكرون هذا التَّحريف، لكنهم يقصرون في نسبة الفضل لساطع الحصريَ.
حدد إخوان الصّفا ارتقاء الكائنات الطّبيعي في أكثر من رسالة كالآتي: (اعلم أيها الأخ، بأن لهذه الموجودات التَّي تحت فلك القمر، نظاماً وترتيباً أيضاً في الوجود والبقاء، وهي مرتبة بعضها تحت بعض، متصل أواخرها بأوائلها كترتيب العدد وترتيب الأفلاك... إن المعادن متصل أولها بالتَّراب وآخرها بالنّبات، والنّبات أيضاً متصل آخره بالحيوان، والحيوان متصل آخره بالإنسان، والإنسان متصل آخره بالملائكة، والملائكة أيضاً لها مراتب ومقامات متصلة أواخرها بأولها كما بيّنا في رسالة الرّوحانيات).
وبيان ذلك: (أن أول مرتبة النّباتية وأدونها مما يلي التَّراب هي خضراء الدّمن، وآخرها وأشرفها مما يلي الحيوانية النّخل... وأما النّخل فهو آخر مرتبة النّباتية مما يلي الحيوانية، وذلك أن النّخل نبات حيواني، لأن بعض أحواله وأفعاله، مبائن لأحوال النّبات، وإن كان جسمه نباتياً. بيان ذلك أنَّ القوة الفاعلة منفصلة مِن القوة المنفعلة، والدليل على ذلك أنّ أشخاص الفحولة فيها مبائن لأشخاص الإناث، ولفحولته في أشخاصه لقاح في إناثها، كما يكون ذلك للحيوان... وأيضاً فإن النّخل، إذا قُطعت رؤوس أشخاصه، جفت وبطل نموه ونشوه، كما أنَّ الحيوان إذا ضُربت أعناقها بطلت وماتت، فبهذا الاعتبار بأن النّخل نبات بالجسم حيوان بالنّفس).
ويستمر الإخوان في تشكيل الكائنات من أدنى إلى أرقى حتى تصل إلى مرتبة الإنسانية، ففيها ترتقي الحيوانية إلى الفضيلة، وتجتمع فيها أنواع من الحيوان، (بصورة الجسدانية مثل القرد، ومنها بالأخلاق النّفسانية مثل الفرس الكريم الأخلاق، ومثل الطّير الأنسي، الذي هو الحمام، ومثل الفيل الذّكي القلب، ومثل الهزار والببغاء الكثيرة الأصوات والألحان والنّغمات، ومثل النّحل اللَّطيف الصّنائع وما شاكل هذه الأجناس).
بالمقابل ورد في مقدمة ابن خلدون: (فنقول اعلم، أرشدنا الله وإيّاك أنّا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلّها على هيئة من التّرتيب، والإحكام وربط الأسباب بالمسبّبات، واتّصال الأكوان بالأكوان، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض لا تنقضي عجائبه في ذلك، ولا تنتهي غاياته؛ وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثمانيّ، وأوّلاً عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعداً من الأرض إلى الماء، ثمّ إلى الهواء، ثمّ إلى النّار متّصلاً بعضها ببعض، وكلّ واحد منها مستعدّ إلى أن يستحيل إلى ما يليه، صاعداً وهابطاً، ويستحيل بعض الأوقات والصّاعد منها ألطف ممّا قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك وهو ألطف من الكلّ على طبقات اتّصل بعضها ببعض على هيئة لا يدرك الحسّ منها إلّا الحركات فقط وبها يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها وأوضاعها وما بعد ذلك من وجود الذّوات الّتي لها هذه الآثار فيها).
(ثمّ انظر إلى عالم التّكوين كيف ابتدأ من المعادن، ثمّ النّبات ثمّ الحيوان، على هيئة بديعة من التّدريج، آخر أفق المعادن متّصل بأوّل أفق النّبات، مثل الحشائش وما لا بذر له، وآخر أفق النّبات مثل النّخل والكرم، متّصل بأوّل أفق الحيوان مثل الحلزون والصّدف، ولم يوجد لهما إلّا قوة اللّمس فقط ومعنى الاتّصال في هذه المكوّنات، أنّ آخر أفق منها مستعدّ بالاستعداد القريب لأن يصير أول أفق الذي بعده. واتّسع عالم الحيوان وتعدّدت أنواعه وانتهى في تدريج التّكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والرّويّة، ترتفع إليه من عالم القردة الّذي اجتمع فيه الحسّ والإدراك ولم ينته إلى الرّويّة والفكر بالفعل، وكان ذلك أوّل أفق من الإنسان بعده وهذا غاية شهودنا).
يرى إخوان الصفا في شأن الدَّولة: (اعلم بأن كل دولة لها وقت منه تبتدئ، وغاية إليها ترتقي، وحدٌ إليه تنتهي. فإذا بلغت أقصى غاياتها ومدى نهاياتها، تسارع إلى الانحطاط والنّقصان، رويداً رويداً في أهل الشّؤم والخذلان، واستأنف في الآخرين من القوة والنّشاط والظّهور والانبساط، وجعل كل يوم يقوي هذا ويزيد هذا، ويضعف ذاك وينقص إلى أن يضمحل الأول المقدم، ويستمكن الآتي المتأخر. والمثال في ذلك مجاري أحكام الزّمان، وذلك أن الزّمان كله نصفان. نصف نهار ونصفه ليل مظلم، وأيضاً نصف صيف حار ونصفه شتاء بارد، وهما يتداولان في مجيئهما وذهابهما).
بالمقابل توسع ابن خلدون كثيراً في شأن الدَّولة، وربطها بالعصبية والدِّين؛ والأُسر، لكن الفكرة الأساسية في بداية الدولة ونهايتها، وجدها في رسائل إخوان الصفا، ومَن يريد المقابلة الاطلاع على الرسائل، في المصدر المثبت، وعلى المقدمة، الباب الخاص في الدَّولة، والفقرة الخاصة بعمر الدَّولة (فصل في أن الدَّولة لها أعمار طبيعيَّة كالأشخاص). هناك متشابهات كثيرة، منها نصاً ومنها معنىً، اقتبسها ابن خلدون مِن إخوان الصفا.
إن الحديث عن الإلهام والعزلة وتفجر الأفكار مفاجأة، مثلما قالها ابن خلدون عن نفسه، هو سبيل المريدين إلى تأكيد خوارق شيوخهم، بعد مباعدة الزّمن بينهم، مثل حديث الأشعريين عن شيخهم الإمام أبي الحسن الأشعري (ت 324هـ) ليجعلوا معجزة وراء خروجه من المعتزلة إلى الصّفاتية. قالوا: حبس نفسه مدة من الزّمن في صومعة ثم خرج بأمر خارق، وأضافوا أنه لم يتخذ القرار الصّائب إلا بعد الرّؤيا التَّي تحدث فيها. وهذا ما ينطبق أيضاً على عدد من المتصوفة المستلهمين وأهل الكرامات.
في حال ابن خلدون، تظهر النّقلة واضحة من القسم الأول من الكتاب، وهو المقدمة، إلى القسم الثّاني وهو التَّاريخ، وهذا ما جعل طه حسين يتوقف أمام هذا الابتكار بقوله: (إن ابن خلدون لا يراعي دائماً الدّقة التَّامة في تطبيق طريقته، أو هو بعبارة أخرى لا يستطيع أن يقاوم عوامل أخرى تؤثر فيه أيما تأثير).
هذا، ولو أردنا تتبع المقابلة بين الرَّسائل والمقدمة لوجدنا النقل باللفظ والنقل بالمعنى كثيراً وكثيراً جداً جداً، تفسيرنا أن ابن خلدون عثر على الرَّسائل وكانت بدون أسماء ومازالت، فقرأها ليؤلف منها المقدمة، التي تجد أسلوبها مفارقاً تماماً لما أتى بعدها مِن تاريخ العبر، بما فيها رسالتهم المهمة بالموسيقى والذي عبر عنها بفصل (صناعة الغناء)، وما سماه ابن خلدون بالعمران كان إخوان الصّفا قد سموه بالبنيان.
في الختام، لابد مِن القول: إنّ إخوان الصَّفا، مع توسعهم في الأفكار، إلا أنهم ليسوا الأوائل في اختراعها، لذا ذكروا فضل الفلاسفة عليهم، ولم يدعوا إلهاماً وإبداعاً خارقاً لم يسبقهم فيه أحد؛ مثلما ادعى ابن خلدون. كذلك لا بد مِن تأكيد أنّ ابن خلدون كاتبُ ملهمٌ، صاحب عبارة جزيلة وأسلوب أخاذ في الكتابة مع ذكاء بطرح الأفكار، أما عمَن نقده بأنه كان متعصباً للشريعة، وكذلك كان إخوان الصّفا يجمعون بين الشَّريعة والفلسفة؛ فلا يجب محاسبته خارج عصره، لكن كذلك يخطئ مَن يعده أباً للحداثة العربيَّة، ولا أباً لعلم الاجتماع، فالرَّجل كان سلفياً مالكياً لم يدع ذلك.

ذو صلة