مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الكاتب ديديه نوردون يحاور أهل اختصاصه

يُعدّ عالم الرياضيات الفرنسي ديديه نوردون  (1946م -...) من كبار النقاد لمجريات الأمور في المجال العلمي اليوم، وبوجه خاص في حقل الرياضيات، وعناوين كتبه العديدة، التي فاقت عشرين عنواناً -فضلاً عن المقالات والأبحاث المختلفة- توحي بذلك قبل تصفحها إذ نجد من بينها العناوين الآتية: (الرياضيات البحتة لا وجود لها)، (الذكاء وَلَع مخزٍ)، (ماذا عن المفكر ومعتقده؟)، (هل 2+2 يساوي 4؟)، (تعنّت عالم الرياضيات)، (الملل: حزن مثمر)، (لتسقط المعرفة). وفي هذه المؤلفات يأتي نوردون بأوجه نظر غير مألوفة حول السبل المتبعة في الرياضيات وسلوكيات أهلها الذين يراهم يرفضون الحوار والاستماع إلى الرأي الآخر!

الإنسان وضخامة حجم المعارف
يرى نوردون أن المجتمع المعاصر يفرط في الاهتمام باكتساب المعارف مهملاً التأمل في ذات المعرفة، وأحسن دليل على ذلك كيفية تصميمنا للمناهج الدراسية ولنظم الامتحانات في جميع مراحل التعليم: كيف لا يحتقر الإنسان نفسه عندما يحسّ بصغر حجمه أمام ضخامة حجم المعارف؟ والواقع أن هناك خطأ يميّز اليوم (عصر العلم)، وهذا الخطأ هو الخلط بين المعرفة التقنية والمعرفة العلمية، وقد نتج عن ذلك زيغ جعل البعض يميلون إلى تقديس ما يعتقدون أنه (علم)، وأدى بالبعض الآخر إلى عكس ذلك حيث صاروا يكنّون احتقاراً للمعرفة التي تبدو، في رأيهم، مبتذلة ولا تحمل بعداً آخر سوى البعد المادي.
ثم يشير نوردون إلى أن هناك وسيلة ناجعة تسمح لنا بالصمود أمام زخم المعارف: علينا أن نقتنع بأننا ملمّون بقسط من المعارف يكفينا لإبداء الرأي والحوار مع معارضينا والحكم على الأشياء وتوجيه النقد، والنقد هنا لا يعني الإساءة بل يعني الإسهام في ردّ الأمور إلى نصابها بتأكيد نسبية الأشياء... فلا إفراط ولا تفريط.
إذا طبقنا هذا المبدأ على الرياضيات فلا بد أن نطرح جملة من الإشكاليات: ماذا تعني الرياضيات بالنسبة لأصحابها؟ وما قيمتها لديهم؟ وما هي الإضاءة التي تقدمها؟ وعن ماذا تنعكس تلك الإضاءة؟ هل تشوّه الرياضيات نظرة الإنسان للأشياء؟ والأسئلة من هذا القبيل كثيرة ومتنوعة، لكن الإجابة عنها ستختلف باختلاف المجيبين، إذ لا نتصور أن إجابة الباحث في الرياضيات ستكون مماثلة لإجابة طالب في مرحلة التعليم الثانوي في عجلة من أمره لإزالة حاجز الرياضيات من طريقه، أو مماثلة لرد فعل محاور تائه في الفلسفة والعلوم الاجتماعية وبعيد عن انشغالات علماء الرياضيات.
وفي هذا السياق، هناك من يرى أن أحسن إستراتيجية للتأمل في الرياضيات والعلوم البحتة هي أن تستخدم كل المقاربات في آن واحد حتى لو كانت متناقضة: نعتبر أن كلها مقاربات جيدة لأن ليس منها مبدئياً ما هو أفضل من غيرها! إن الرياضيات معقّدة ومتعدّدة الأوجه وكذلك حال وسط أهلها ومع ذلك فالحوار بينهم يحتدّ أحياناً في أمور لا يدركها إلا أصحاب الاختصاص، ومن ثمّ فالصورة الوفيّة للرياضيات لا بد أن تكون متعددة أيضاً بتعدد أوجه النظر، وعلى كل حال، فلا يمكننا استنباط أثرَى الحقائق وأصدقها إذا ما انغمسنا بدون انقطاع في نفس الاتجاه دون الاستماع إلى الآخر.

الرياضيات هشّة
وهنا يشير نوردون إلى أن المزج بين الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ والرياضيات بالغ الأهمية لأنه يسهّل لنا التقرب من الحقيقة، فالفيلسوف عندما يتمادى في التعمّق في المفاهيم ربما ينسى أن (المفهوم العميق) ضرب من المثالية ينبغي الحذر منه، كما أن المؤرخ الذي لا ينقطع عن قراءة المخطوطات القديمة قد ينقطع عن تاريخ عصره وعن دقة علومه، إلخ. وفي مطلق الأحوال، فإن الرغبة في فهم الرياضيات رغبة لا يمكن تلبيتها لأن الرياضيات انشطرت إلى آلاف الاختصاصات والتفرّعات، وكل فرع منها يتطلب مدة تعادل حياة الفرد للتحكم في زمامها، فمن أين يبدأ الحوار إذا أراد علماء الرياضيات الالتقاء في الرأي حول مسائل بالغة الدقة؟ يبدو ذلك أمراً مستحيلاً.
ومما يستخلصه نوردون هو أنه ينبغي على الثقافة أن تمنح للفرد أدوات التعبير عن حريته بالشكل الأنسب، وبطبيعة الحال، فهذا يتطلب الإلمام بكمية من المعارف، غير أن التعبير عن الحرية لا يقتصر على التلقائية: ما هي المعارف الضرورية، وما هي المعارف غير الضرورية؟ إنه سؤال صعب. وهنا نجد لدى نوردون، أستاذ الرياضيات، رأياً مثيراً وناقداً: إن الرياضيات لا تشكّل معارف ضرورية رغم وجوب توفير الإمكانيات اللازمة ليتعلمها الطفل دون أن يُفرض عليه ذلك، فهناك أناس لا يهتمون بالرياضيات ولا يشعرون برغبة في تعلمها ولا بحاجة إليها... فلِمَ نفرض عليهم تعلمها؟
ويوضح نوردون موقفه فيعلن أن ثمّة غلواً في القول إن للرياضيات مزايا من شأنها أن تساعد الفرد على اكتساب قدرات فكرية: المنطق السليم والحجة الدامغة أثناء الحوار، والقدرة على التجريد واكتساب الفكر الناقد. ويضيف نوردون أنه يعرف الكثير من علماء الرياضيات الذين لا يتمتعون بهذه القدرات أكثر من غيرهم؛ ولذا ينبغي إعادة النظر في العديد من الأحكام والآراء بخصوص الرياضيات وشأنها في المجتمع، ويقتضي الأمر أن يقدّم علماء الرياضيات بعض التنازلات منها:
- قبول الفكرة القائلة إن للرياضيات معنى آخر يختلف عن ذلك الذي يعطيه لها علماؤها، ومن ثم قبول فكرة التحاور حولها.
- التسليم بأن النظريات التي يتغنون ببراهينها وصدق نتائجها هي نظريات تحمل نصيباً من النسبية، ومن ثمّ فهي قابلة للنقاش.
- التسليم بأن رأي رجل الشارع ليس أقلّ شرعية من رأي عالم الرياضيات وأن الحوار بين الطرفين لا يؤدي بالضرورة إلى غلبة الطرف الثاني.
- ينبغي التخلّي عن فكرة (اليقين) التي ما زالت تحيط بالرياضيات فذلك يعيق أسس الحوار الذي ينطلق من احتمال وجود خطأ في أي رأي كان.
إن الرياضيات هشّة، والدليل على ذلك العدد الهائل من الأبحاث التي ينتجها علماء الرياضيات اليوم، فمن المؤكد أن تلك المنشورات تحمل الغث والسمين، ولو تمت مناقشتها بتأنٍ بين المختصين وغير المختصين قبل النشر لتم تمحيصها ولكان محتواها أجود. وهنا يجري نوردون مقارنة بين أقدم النظريات الشهيرة في الرياضيات وآخر نظرية تم البرهان عليها (النظرية التي أثبتت منذ لحظات!). لقد خضعت النظريات القديمة للتمحيص من قبل الإغريق والصينيين والعرب والمسلمين والأوروبيين فشرحوها وأوّلوها وأدركوا خلفياتها، وبذلك صارت موروثاً بشرياً يمكن أن نصفها بـ(الكوْنية).
أما آخر نظرية أثبتت اليوم فقد تم البرهان عليها في جوّ تنافسي بين الباحثين يغلب عليه التسابق إلى نشر البحوث، ثم إن مضمون هذه النظرية لا يُدرَك إلا من قبل قلة من العلماء الذين يعانون من ضيق الوقت ولا يستطيعون التحاور حولها مدة كافية للتأكد من تفاصيل البرهان. فكيف لا يتسرب، في هذه الظروف، الخطأ لهذه النظرية؟ وليس غريباً أيضاً أن تتناول النظرية التي ستصدر بعد نصف ساعة من الآن نفس الموضوع فتكمّل تلك النظرية أو تدحض مضمونها دحضاً لا تقوم بعده أبداً؛ ولذا فهناك احتمال كبير في أن تطوى هذه النظرية بطيّ النسيان كما هو حال عدد هائل من النظريات، وسبب ذلك عدم إخضاع تلك النتائج العلمية إلى المحك الأساسي، وهو محك النقاش الجاد، والأخذ والرد حول مضمونها بين المختصين قبل نشرها.
إن من يعرف الرياضيات عن كثب يعلم أن البرهان لا يؤدي فيها الدور الأساسي إذ ليس من الصعب إقحام علماء الرياضيات في متاهات منطقية حول ما أثبتوه من نتائج وجرّهم إلى وضعيات يعجزون فيها عن الإتيان بالحجج المقنعة عند محاورتهم، وهم يدركون أيضاً أن الجمال له مكانة مرموقة في الرياضيات، والكل يعلم أن الجمال قضية لا تُثبت ولا تُبرهن! وعليه يمكننا أن نجعل الرياضيات محلّ حوار ونقاش مثلما نناقش الأذواق والألوان، والهدف من هذا النقاش لا يرمي إلى جعل الطرف الآخر يغيّر رأيه، بل يرمي إلى إدراك الثراء الذي تحمله أوجه النظر المختلفة.
بهذه الأفكار النقدية يوصي نوردون زملاءه بالخروج من دائرة التقنيات لينفذوا إلى دائرة التساؤلات والحوارات حتى فيما يرونه (يقيناً) لا غبار على صحته؛ وبذلك تكون الرياضيات عملاً ثقافياً حقيقياً.

ذو صلة