مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

نادي الكاميرا.. مغامرات فوتوغرافية تحتفي بالتجريد والتجريب

تتيح الفنون التجريدية مساحات واسعة من التمرد والتخييل، لمفارقتها المعطيات الطبيعية للأشياء والعناصر والعلاقات، ونأيها عن مشابهة الواقع بمرئياته وملموساته ومدركاته، ما جعلها بمثابة إعادة تخليق للموجودات وفق رؤى شخصية غير ذات مرجعية، وبالتالي فهي مرهونة عادة بمقدرة المبدعين على التصوّر والابتكار خارج الأفكار الجاهزة والأنساق المقررة والمقاييس المدرسية المحسوبة.

ولا يتعارض التوجه الطليعي للتجريد مع الاحتفاء بالموروث الثقافي، ومحاولة إلباسه ثوباً جديداً, ومن مظاهر ذلك الاحتفاء، الاستخدام النوعي للأشكال الهندسية، التي حفلت بها الفنون البصرية الإسلامية على سبيل المثال، كالمربعات، والمثلثات، والمستطيلات، والدوائر، واستثمار جماليات الحروف العربية في سياقات مجردة، مكتفية بذاتها، على نحو مغاير تماماً لقواعد الكتابة الاعتيادية، ومفاهيم الكلمات والعبارات.
في هذا الفضاء الرحب، تلتقي تجارب عشرات الفوتوغرافيين المعاصرين ضمن نشاطات -نادي القاهرة للكاميرا-، ليعبروا بلقطاتهم الواعية التي يؤطرها النادي على صفحاته الرقمية عن التجريد بمفهومه الأشمل، الذي يتسع للحاضر والموروث، وينبني على التدقيق والملاحظة والاستنباط والفلسفة والتفكير وصولاً إلى مخالفة الكينونة المألوفة والمعايير الحرفية والسمات الحقيقية أو المادية.
وتجسّد تلك الأعمال الفوتوغرافية، تحت مظلة التيارات التجريدية في الفنون البصرية، حساسية التعامل مع الكاميرا، لإعادة إنتاج الأضواء والظلال والخطوط والألوان وتراكيب المشاهد والمواقف والتفاصيل، وفق صيغ منفلتة، خارج السيطرة والتقنين.
تتنوع أعمال الفوتوغرافيين الجدد، وتتفاوت قياساتها وألوانها وثيماتها, وعلى الرغم من تباين خبرات الفنانين وتجاربهم وأساليبهم، فإنهم يكادون يتفقون ضمنيّاً على الملامح العامة الأساسية لتيارات التجريد، من حيث قراءة الأصول الطبيعية وفق زوايا خاصة ومناظير هندسية، والاحتفاء بالحركية والانسيابية والتوترات الإيقاعية، وتتبع الجوهر الباقي في الأشياء والطاقة الكامنة في سائر المفردات، والتخلص من المسميات والحواشي والزوائد، ومحو آثار الاقتران بالواقع، والسعي اللاهث إلى تفكيكه وهزيمته، وعدم الانقطاع في الوقت ذاته عن عناصر التراث ومفرداته، دون أن يقود ذلك إلى الاجترار أو التكرار بطبيعة الحال.
تمكّن كل فوتوغرافي ببراعة من توظيف خلفيته الفنية في إبداع صور تجريدية مرتبطة بشكل أو بآخر بمجال التصوير الذي يتميز به دون غيره. ومن بين هؤلاء الفنانين، المعماري والمصور الفوتوغرافي وسام الشرقاوي، المدير الإداري لنادي القاهرة للكاميرا.
وفي لقطاته تتجلى من خلال الخطوط السهلة رؤية المعماري المحترف الذي يهوى الفن ويبرزه بعدسته كرسم ثلاثي الأبعاد للأشياء، باستخدام الأشكال الهندسية على اختلافها، مثل المثلثات والمربعات والمستطيلات والدوائر وغيرها، التي تحيل إلى المنمنمات والزخارف والفنون والتراكيب العربية والإسلامية.
يحرص الشرقاوي على الأخذ بالرؤية الأخصب والأرحب للتجريد، حيث يعتمد على بساطة الأشكال، وسلاسة الألوان، وأدوات الإيماء، من أجل أن يحدث التصوير الفوتوغرافي أثره كنوع من أنواع الفنون التي تمتلك طابعاً معنوياً، ومنظماً، ونقياً، ويبتعد هذا النوع من الفنون عن الوصف الدقيق لواقعية الأشياء وطبيعتها الثابتة.
ومن جهتها، تقدم الفنانة داليا رائف راضي في أعمالها الفوتوغرافية لغة غير منقطعة الصلة بهندسة الاتصالات، مجال دراستها، منطلقة من أن أفكار الفنون المجردة يمكن التقاطها من أي ميدان، وأي مجال، فلا حدود للتخيل، ولا سقف للرؤية.
من ثم، فهي مغرمة بالسماء، والفضاء التأملي، كما تستلهم في أعمالها الفنية خيوط الاتصالات وقنواتها وشفراتها، شأنها شأن النجوم والأقمار والكواكب، ليعبر التجريد عن إعادة اكتشاف كل ما نراه، وتمنح آلية الرصد الموجودات مسميات جديدة، وتجري قراءة الماضي والموروث بروح عصرية حداثية.
وفي أعمال الفوتوغرافي حاتم إسماعيل باجنيد، يتجسد ببساطة أن الفن حياة، وأن التجريد يكسب هذه الحياة الوقود اللازم للإبقاء على الحيوية, ولعل من أبرز منطلقات نادي القاهرة للكاميرا أنه يقرن ممارسة الفن وتنمية مهارات المصورين بممارسة الحياة الاعتيادية، لكي لا يصير الإبداع ترفاً أو رفاهية أو نشاطاً مفتعلاً, ولذلك فإن النادي، الذي تأسس عام 1988، هو ناد فني واجتماعي أيضاً، وتدار أنشطته غير النخبوية من خلال لقاءات دورية منتظمة لأعضائه، ما يجعلها تفاعلية ومتطورة ومواكبة لما يدور على الأرض.
ويجسّد باجنيد في أعماله المتجذرة في الموروث لقطات بالأبيض والأسود لمساحات من الأراضي الطينية والرملية، فهو يسعى بالصور المجردة إلى إبراز أثر الطبيعة من خلال التغيرات الواقعة تلقائياً على الأرض الخام، وكذلك أثر الإنسان، بخطوات قدميه وما فعله بيديه, ولقد ذهب إلى المناطق الحدودية، بين مصر وليبيا، وأطلق للكاميرا العنان لقراءة جغرافيا ناطقة بالدلالات والتناقضات المنظورة، والخفية.
وتتعدد المشاركات المتميزة لفنانين من أجيال متلاحقة، منهم, سارة مصطفى، جورج راسم راغب، داليا حسونة، سارة فؤاد، دينا محمد رمضان، عمرو مقلد، أحمد محمد سعد، بولس إسحق، ناجية محمد زكي، تامر الحديدي، رانيا التركي، وغيرهم.
وتثبت أعمال المصورين في مجملها، وخصوصاً إبداعات الشباب، أن نضج الصور الفوتوغرافية، ورهافة مؤشراتها القيمية والجمالية والتعبيرية، وامتداداتها التأثيرية، هي حصيلة لتفوق عناصرها ومفرداتها المتنوعة، وذلك من حيث الفكرة والموضوع وزاوية الالتقاط، وبراعة التكوين، وحسن استغلال الإضاءة والظلال، وأصالة الوعي والرؤية، وزخم الإحساس بالثقافة البصرية الموروثة، إلى جانب ما تنقله الصورة المنفردة من حالة أو قصة أو موقف أو صراع درامي، بأدوات تجريدية رامزة عميقة.

ذو صلة