حقق مسلسل (The Penguin) نجاحاً نقدياً وجماهيرياً فاق كل التقديرات، خصوصاً وأن المسلسل لم يتوقع منه أحد أن يقدم جديداً، فالمسلسلات المقتبسة من عوالم الكوميكس والأبطال الخارقين أكثر وفرة وتنوعاً من قدرة أي شخص على متابعتها، ونادراً ما تقدم أي طرح جديد ومتفرد، فهي في الغالب استغلال تجاري للنجاح الذي تحققه الأفلام في شباك التذاكر، ربما جذبت بعض المسلسلات المقتبسة من عوالم (Marvel) الأنظار من حين إلى آخر، أما مسلسلات (DC) فلم تحظَ على نسب مشاهدات مرتفعة أو تقدير نقدي باستثناء وحيد لمسلسل (Watchmen)، ولذلك كان نجاح (The Penguin) مفاجأة سارة للجميع، ليس فقط لجماهير ومتابعي أعمال الكوميكس، ولكن لأي مشاهد يتوق إلى عمل محكم درامياً، ويقدم وجبة فنية ممتعة ومسلية، وفي نفس الوقت لا تخلو من عمق نفسي وفكري، يعيد إلى الأذهان الطفرة الفنية التي قدمها (كريستوفر نولان) في عوالم الأبطال الأخارقين، ونسخة (هيث ليدجر) من الجوكر التي تعد الأفضل على الإطلاق. البطريق هذه المرة ليس فقط أفضل نسخة من عدو باتمان القديم، ولكن ربما شرير الكوميكس الأعمق الذي يظهر على الشاشة.
قدم (كريستوفر نولان) في ثلاثية (The Dark Knight) نسخة من عوالم جوثام تميل إلى الواقعية الشديدة، حيث أعاد تشكيلها كمدينة تُشبه نيويورك، وناقش موضوعات ثقيلة مثل الفوضى والنظام، والفساد والإرهاب. بخلاف كل من سبقوه من مخرجين، تعاملوا مع الأبطال الخارقين إما باستخفاف، أو بكونها عوالم فانتازية لا تمت للواقع بصلة، بينما رأى نولان الإمكانيات التي يمكن أن تحملها تلك القصص من ثقل وقضايا مهمة ولكن في إطار درامي ممتع، اعتمد نولان على حبكات معقدة وسرد غير خطي، مما خلق تجربة سينمائية ذات طابع فلسفي.
أما عالم (The Batman) الذي أطلقه (مات ريفز) عام 2022، فهو أكثر تركيزاً على الأبعاد النفسية وأسلوب (النوار) (Noir)، حيث يقدم مدينة جوثام باعتبارها مدينة مظلمة وقذرة تسيطر عليها الجريمة المنظمة. باتمان هنا ليس أسطورة متكاملة بل شخصية شابة لا تزال تتطور نفسياً وأخلاقياً، وتتعامل مع التحقيقات الجنائية بطرق أقرب إلى أفلام الجريمة الكلاسيكية. نظراً إلى أن الرجل الوطوط بدأ كمحقق في الأصل في عالم القصص المصورة.
واستكمالاً لعمل ريفز، يعكس مسلسل (The Penguin) هذا التوجه من خلال التركيز على صعود شخصية البطريق في عالم الجريمة، مما يجعل القصة تتبع منطق أفلام العصابات، بدلاً من كونها قصة بطل خارق. رؤية ريفز أكثر تركيزاً على الشخصيات الهامشية وتأثير الفساد في جوثام، أو كما قالت كاتبة العمل (لورين لوفرانك): إن المسلسل يركز على تجربة مختلفة، حيث يرى المشاهدون مدينة جوثام من منظور أوزوالد (أوز) كوب، وهو يحاول شق طريقه نحو القمة، بدلاً من رؤية المدينة من منظور باتمان العلوي.
من أكبر التحديات في كتابة شخصية بطل شرير هو جعل المشاهد يتعاطف معه أو يستثمر شعورياً في رحلته، دون أن يفقد طبيعته الشريرة. كيف يمكن تقديمه كشخصية جذابة (likeable) دون التخفيف من قسوته؟ فالفارق بين البطل الشرير (Villain Protagonist) والبطل المخالف للعرف (Anti-Hero) دقيق ولكنه جوهري. البطل المخالف للعرف لا يمتلك بالضرورة الفضائل التقليدية للأبطال، لكنه عادة ما يتحرك نحو هدف يمكن للجمهور التعاطف معه، أمثال راست كول في (True Detective) ودون درابر في (Mad Men). فهم لا يتبعون القواعد الأخلاقية لكن لديهم مبادئ خاصة تجعلهم أقرب إلى المشاهد.
أما البطل الشرير، فهو شخصية لا تسعى للخير إطلاقاً، بل تدفع القصة للأمام من خلال دوافع أنانية محضة، ومع ذلك، يتم تقديمه بطريقة تجعله مثيراً للاهتمام، كما نرى مع توني مونتانا في (Scarface)، الذي صرح منتجو العمل أنه كان مرجعاً لهم أثناء إنتاجه، لهذا، ينتمي البطريق إلى الفئة الثانية، فهو مجرم طموح يحاول استغلال الفوضى في جوثام لترسيخ سلطته. ما يجعل البطريق شخصية جذابة للمشاهدة هو دهاؤه وصراعه المستمر مع منافسيه، بالإضافة إلى مهاراته في التلاعب بالآخرين لتحقيق أهدافه. ورغم إدراك المشاهد لمدى خطورته وفساده، فإنه يجد نفسه مستمتعاً برحلته. والسيناريو لم يكتف بذلك، بل رأيناه في عدد من التفاصيل -وبخاصة في الحلقات الأولى- يتخذ قررات تجعل المتفرج يتعاطف معه، اهتمامه ورعايته لأمه حتى في أحلك لحظاته، عفوه عن فيكتور وتحويله إلى مساعده بدلاً من قتله، تفاصيل صغيرة منثورة هنا وهناك، مثل رغبته في مطالعة شروق الشمس بهدوء.
ظهور البطريق الأول كان في العصر الذهبي للكوميكس عام 1941، حيث بدأ كشخص جاء من خلفية فقيرة، يرث عن أبيه محل الطيور ثم يخسره بسبب الديون، ويسعى لإثبات نفسه وسط المجرمين الذين يسخرون منه بسبب قصر قامته وطريقة مشيه وأنفه الطويل الذي يشبه المنقار. منذ ذلك الحين، مرت الشخصية بتطورات عديدة عبر أكوان (DC) المتعددة -حيث توجد نسخ مختلفة من الشخصيات، وتتغير أصولها وتطوراتها وفقاً لطبيعة العالم الجديد، مما يسمح بإعادة تصور مستمرة وفقاً للسياق والزمن الجديدين- ففي إحدى الأكوان تشكلت شخصيته بسبب والدته التي أجبرته منذ صغره على حمل مظلة باستمرار لخوفها عليه من الأمطار التي تسببت في موت أبيه، وقرر أن يحول تلك المظلة إلى سلاح فتاك ومبتكر يقضي به على أعدائه، ثم أعيد ابتكار الشخصية كابن لعائلة أرستقراطية نبذته في المهد بسبب مظهره، ما دفعه إلى الجريمة مع الحفاظ على مظهره الراقي. لاحقاً، اكتسبت الشخصية طابعاً أكثر سوداوية، إذ انتقم من أفراد عائلته ومن تنمروا عليه بوحشية، مستخدماً ذكاءه وقسوته في بناء إمبراطوريته الإجرامية. وأخيراً أُعيد تقديمه كمخبر لباتمان ضد كارماين فالكوني، ليستولي لاحقاً على عالم الجريمة.
يأتي ظهور البطريق الجديد في مسلسل (The Penguin) مستفيداً من كل النسخ السابقة، مع إعادة صياغة الشخصية لتواكب روح العصر، فهو يُقدَّم بصورة أكثر واقعية وإنسانية، حيث يتم التعمق في خلفيته النفسية والاجتماعية، فهو قادم من بيئة فقيرة، له هيئة جسدية غريبة جعلته هدفاً سهلاً للتنمر، يقتل شقيقيه طمعاً في استئثار محبة والدته لنفسه، وذلك بحبسهم في مجاري المياه أسفل المدينة، ثم يعود لها لاحقاً ليصنع إمبراطوية المخدرات في حيه القديم، وتتملكه رغبة ملحة في إثبات نفسه وسط عالم الجريمة الذي لا يرحم، حتى يثبت لأمه ولنفسه أنه كان يستحق أن يكون وحيدها، بهذه الطريقة، تختلف النسخة الجديدة عن كل ما سبق، فهي لا تقتصر على الصورة النمطية للشرير الكاريكاتوري، كما قدمها (تيم بيرتون) في فيلم (Batman Returns)، بل تُظهر عمقاً إنسانياً وصراعاً داخلياً يجعل من البطريق شخصية معقدة.
مسلسل (The Penguin) يقدم تجربة درامية غنية، تتجاوز كونه قصة أحد أشهر أشرار باتمان، إذ يرتكز على فرضية درامية تتناول صعود أوزوالد كوب، إلى قمة عالم الجريمة بعد الفراغ الذي تركه موت زعيم المافيا كارمين فالكوني. هذه الفرضية تتبلور عبر استكشاف كيف يمكن لرجل كان مجرد تابع في السابق، أن يصبح قوة مهيمنة في مدينة مثل جوثام، حيث البقاء للأذكى والأكثر دهاءً، لا للأقوى فقط.
الصراع المحوري في المسلسل ينبع من المنافسة المحتدمة بين البطريق وصوفيا فالكوني، ابنة زعيم المافيا الراحل، التي تمثل نقيضه في الأسلوب، لكنها تشاركه الطموح والرغبة في السيطرة. هذه العلاقة ليست مجرد صراع على النفوذ، بل تجسيد للصراع بين من وُلدوا في عالم الجريمة، مثل صوفيا، وبين من اضطروا لشق طريقهم فيه، مثل أوزوالد. السيناريو يبني هذه العلاقة على مزيج من الاحترام المتبادل، الحذر، والمواجهات الذهنية الحادة، ما يجعل كل لقاء بينهما مشحوناً بالتوتر والرهانات العالية.
صوفيا فالكوني ليست مجرد شخصية شريرة عادية، بل هي نتاج لظروف قاسية وأحداث مأسوية تركت أثرها في كل تفاصيل حياتها. نشأت وسط فوضى دموية، فقد قتل والدها والدتها ونساء أخريات، ثم لفق لها أبوها تلك الجرائم، وأودعت في سجن أركام، حيث انطبعت عنها صورة ذهنية بأنها الجلاد قاتلة النساء، مما غرَس فيها شعوراً عميقاً بالظلم والاستغلال. خرجت من السجن وهي متشككة في كون أوزوالد -سائقها الخاص سابقاً- أنه هو من قتل شقيقها ألبرتو، ولكن أوزوالد ينجح بمكر شديد أن يلصق التهمة بسالفاتوري ماروني وعائلته، في مقابل صفقة مخدرات، ولكن بعدما تكتشف صوفيا أن أوزوالد هو من وشى بها أمام أبيها وزج بها إلى السجن وهو من قتل شقيقها، تكرّس كل طاقتها للانتقام منه، وليس بقتله أو تعذيبه، ولكن بنكء جراحه النرجسية إلى أقصى درجة ممكنة.
بعدما اكتشفت صوفيا حقيقة خيانة أوزوالد لها، لم تسعَ لقتله أو مواجهته بشكل مباشر، بل قررت أن تسدد له الضربة الأكثر إيلاماً: ضربة تمس ذاته النرجسية وجروحه النفسية العميقة. اختطفت والدته، المرأة الوحيدة التي كانت تمثل له مصدر القبول غير المشروط، لتفهم منه خلال حديثها معها كيف تشكّل هذا الرجل القاسي البارد، وكيف صنعت مدينة جوثام من طفل هش مهووس بالقبول، مجرماً لا يعرف الرحمة. من خلال تحليلها لشخصيته، أدركت صوفيا أن أوزوالد لم يحب أمه حقاً بقدر ما كان مهووساً بها، لأنها وحدها من منحته الدعم غير المحدود، مهما ارتكب من جرائم، مما عزز لديه وهم الاستحقاق المطلق. لكنه، في جوهره، ظل محتاجاً لهذا الدعم حتى بعد دخولها في غيبوبة مستمرة، ليجد لاحقاً بديلاً عنها: صديقته التي جعلها ترتدي ملابس شبيهة بملابس والدته، وتردد على مسامعه نفس الكلمات التي كان يسمعها منها، في محاولة يائسة لرأب الصدع العميق في ذاته، الصدع الذي صنعته قسوة جوثام والخذلان الذي تجرّعه طوال حياته.
قدم (كولين فاريل) في مسلسل (The Penguin) أداءً استثنائياً، حيث تحول بالكامل إلى أوزوالد كوب من خلال الماكياج الثقيل، لكن الأهم من ذلك هو تجسيده العميق للشخصية. لم يعتمد فقط على المظهر، بل نقل بمهارة كل التناقضات التي تعيش داخل البطريق، من ذكائه الحاد وطموحه الجامح إلى هشاشته الداخلية ونشأته القاسية. أضاف فاريل طبقات من التعقيد إلى الشخصية، حيث لم يصوره كشرير مبالغ فيه، بل كزعيم عصابات ذكي يسعى للسيطرة على الجريمة في جوثام بطريقة باردة ومدروسة، مع نكهة سوداوية ساخرة. استحق عنه الحصول على جائزة الجولدن جلوب.
مسلسل (The Penguin) لا يكتفي بتقديم رحلة صعود مجرم في عالم الجريمة، بل يتجاوز ذلك إلى استكشاف كيف تصيغ البيئة شخصية الإنسان، وكيف يتحول الضعف إلى قوة، والخذلان إلى دافع للهيمنة. في صميم هذه القصة، لا تمثل جوثام مجرد خلفية للأحداث، بل تبدو كياناً حيّاً يتفاعل مع سكانها، تلتهم البعض وتصنع آخرين وفقاً لقوانينها القاسية. هنا، تتلاشى الحدود بين الخير والشر، ويصبح البقاء للأكثر دهاءً، حيث تتشابك المصائر، وتتحول الأحلام إلى كوابيس، بينما يواصل البطريق تحليقه، ليس لأنه يمتلك أجنحة، بل لأنه أدرك أن النجاة في جوثام تعني ألا تسقط أبداً.