وإذ يشدد عنوان هذه الورقة على مفردة (تقريظ اليد) فإنما ليذكر بالعلاقة اللمسية التي يُفترض أنها كانت جدنا الأول في غابر التاريخ بالأشياء في العالم من حوله. وفي هذه المناسبة يتم التنويه باليد لكونها الواسطة التي تصل الحِرفة بالفن في سياق تتلاقى فيه اختصاصات وخبرات غايةً في التنوع والتعدد يقترن فيها الجمالي بالعلمي بالحِرَفي التقني، ويتداخل أو يتجاور فيها التشكيل والتصميم، ويترافق فيها الفكر واليد.
إن الصداقة المعقودة بين اليد والمدينة هي التي تتيح لمِراس التصميم والتشكيل أن يتجلى منجزاً فنياً حيث لا تكتفي اليد بأن تمسك وتخط وإنما، وهي ترافق العين في تدقيقها وتأملها، تتدبر المادة وتفكر في إمكاناتها التشكيلية. فهي ليست مجرد عضو تقبلي، بل هي طاقة خلاقة. فإذا كان فنانون كثيرون قد احتفوا باليد في سياقات مختلفة، فإننا ونحن نعاين اليوم، في مرحلة تكاد تتحول فيها الوظيفة اللمسية لليد، وهي تنقر على لوح المفاتيح أو تنزلق بإصبع أو اثنتين على الشاشة إلى وظيفة افتراضية، إنما نحتاج إلى أن نستحضر ما ترسخ لليد من ذاكرة نتقصى من خلاها عن أثر يد المهندس المصمم، ويد الفنان المصور، ويد الحرفي المجسِم.
***
يمكن الانطلاق من التساؤل: أية مكانة يمكن أن يحوزها، اليوم، حِرفيو الفنون في سياق تنامي رقمنة معظم الحِرَف بشكل مهول، والبحث عن اقتصاديات بديلة على الصعيد الدولي بسرعة متنامية في الإنتاج والتوزيع؟
يقتضي الأمر إعادة اختبار اليد في مجال العمل. وقد عكف عالم الاجتماع والمؤرخ الفرنسي هوغس جاكي Hugues Jacquet على بيان (ذكاء اليد) في مؤلف له يحمل هذا العنوان. فهو يشدد على جدوى تعهد الحركة رغم المكننة والتألية. فبالنسبة إليه يتميز الحِرَفي في مجال الفنون بضرب من التعايش، ضمن مسار الإنتاج نفسه، بضرب من التعايش بين اليد واستخدام اليد. هذا التعايش لا يلغي البعد الإبداعي والجمالي، فالصّنّاع لا يراهن فقط على مهارة اليد، بل على كل جسده وحواسه. فمع فكرة (ذكاء اليد) يمكن أن نغادر الرؤى ذات النسب الواحد التي كانت تميز المعرفة تقليدياً (من العقل إلى الفعل). فثمة معقولية أيضاً تميز العالم الذي ننفذ إليه عن طريق اليد. فأن يكون المرءُ حِرَفياً هو يتولى تطوير جملة من القدرات الذهنية التي تتجاوز مجرد التحريك الحاذق للأشياء. إن نشاط الحِرَفي معقود على شغف بالمادة يترجمه حرصُه على معرفتها في ذاتها وفي تنوعاتها.
على أن الاعتراف لليد بجدارتها بعدُ في مجال الحِرَف لا يعني بالضرورة العزوف عن التكنولوجيات الجديدة. فالتوسل بها يسهم هو أيضاً في أن يكشف لليد قدرات أخرى كانت في وضع (الغفل). فتدخل اليد هو الذي يحفظ لكل منتوج، حتى وإن كان واحداً ضمن سلسة مكرورة من أشباهه، قدراً من الفرادة يجعله، وإن بتفاوت لا محالة، في مستوى الأثر الفني. بالفعل، لا يماري أحد بأن الحِرَفي يوجد في التقاطع بين نمطين: نمط المحرف التقليدي ونمط التنظيم الأوسع للعمل. ومن ثم هو ينتسب في الوقت نفسه إلى عالمين: عالم الصنعة التي يتعهد بها ذاته وعالم الحياة اليومية الاجتماعية، وهذا ما يصبغ وجوده بضرب من الازدواجية لا يمكن تجاوزه حتى لا يتحول إلى مفارقة وجودية إلا لاهتداء إلى السبل الكفيلة ببين البعد الفني لعمله.
***
الواقع أننا نحتاج أيضاً إلى تدبر مسألة الحِرَف ضمن مقاربة تستحضر الإشكاليات التي يثيرها تنزيل الحِرَف اليدوية ضمن نظام العمل. وهي مقاربة ذات طابع سويولوجي وفلسفي ولنا في هذا المضمار أن نستأنس، في إيجاز مشط، بتصور الأمريكي، عالم الاجتماع ريتشار سنت Richard Sennett، فقد وضع مؤلفاً وسمه بـ(ما تعرفه اليد، ثقافة الحِرَف). وهو إلى إعادة تأهيل العمل الحِرَفي، وهو يعود لأجل ذلك إلى الانشطار الحاصل تاريخياً بين النظرية والممارسة، بين الفنان والحِرَفي، ومن ثم العمل الذهني والعمل التقني. ففي تقديره تعاني المجتمعات الحديثة من هذا الإرث التاريخي، وعليه أن تغنم من السعي إلى إعادة تثمين العمل الحِرَفي. ومن المغانم الناجمة عن ذلك أن التقدير الإيجابي لإتقان الحرفة يتوسع ليغدو إعادة تأهيل لفكرة العمل ككل. والأمر لا يقف فقط عند حدود مقاربة سوسيولوجية تتناول طرق تنظيم عمل الحرفيين، وإنما تتوسع نحو مقاربة فلسفية أعمق تنكب على تعريف موسع لحِرفة الحِرَفي: (الحِرفة تعني تحفزاً إنسانياً مبدئياً ودائماً. والأمر أشمل من مجرد العمل اليدوي المؤهل). يقترح سنت، إذاً، ضرباً من نمط نموذجي للحِرَفي أو الصنّاع ينسحب، في رأيه، على مبرمج الإعلامية أو على الطبيب كما على الفنان. وعلى هذا النحو من شأن الحِرَفي أن يكون نموذجاً للمجتمع بأسره.
والواقع أنه بهذا يقطع مع التصور الذي تبنته أستاذته حنا آرندت التي تميز بين الإنسان الصانع Homo faber والحيوان العامل animal laborans، أي بين صورتين للبشر في مجال العمل. فهو يتحفظ على هذا التمييز، فإذا كان الحيوان العامل، حسب رأي حنا آرندت، يذوب تماماً في المهمة الموكولة إليه والتي تمتصه إلى حد أنه يفقد الحس الأخلاقي، وأوضح مثال على ذلك مبتكرو القنبلة الذرية، في حين أن الإنسان الصانع، في تقديرها هي أيضاً، يقدر على نحو أتيقي ما يقوم به من عمل، إذا كان هذا هو تصور حنا آرندت، فإن سنت ينتقد هذا التمييز الذي ينكر على الإنسان الواقعي، المتحمس لحِرفته، صلته بالعمل. فمن تسميه أستاذته (الحيوان العامل) هو، بعيد عن أن يكون مخبولاً، قادر في الواقع على أن يُدخل في الصنعة جزءاً بالغاً من التفكير ومن الإحساس. وهو ما يقتضي منه لا محالة إثبات الحضور العقلي عندما يشرع في تجسيمه إتقانه لحِرفته من أجل أن يصنع شيئاً محدداً. ولذلك فإن سنت لا يتوانى عن التذكير باطراد أن (الحِرَفة تستدعي الرأس كما اليد).
خاتمة
يبدو إذاً أنه يتعين النظر إلى الحِرفة لا فقط كنشاط يتنزل في سياق العمل المنظم اجتماعياً، وإنما بوصفه من إمكانات تحقيق الذات، وهذا ما يضفي عليه قيمته الإبداعية فنياً وجمالياً. وقد يكون اهتمام النقد الفني بالمصنوعات الحِرَفية أحد هذه السبل، وهذه ليست بدعة إذا تذكرنا أن كثيراً من الأغراض القديمة المعروضة في كثير من متاحف العالم كانت في الأصل (مشغولاً) حِرفية كانت تطلّبتها الحياة اليومية للإنسان في أحقاب غابرة من التاريخ.