ربما لا يعلم الكثيرون أن المرأة العربية لعبت دوراً مهماً في الحركة الموسيقية إبان عصور الإسلام المتعاقبة، وفي السطور التالية نلقي الضوء على مجموعة من الملحنات المغنيات الشاعرات العازفات اللاتي ذاع صيتهن وكان لهن أثر واضح في مجتمعاتهن.
اشتهر في عصر صدر الإسلام وبني أمية من المغنيات كثير من القيان من أبرزهن (سيرين) مولاة حسان بن ثابت. وهي إحدى الجاريتين المصريتين اللتين أهداهما المقوقس في العام التاسع الهجري (630م) إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
عن (سيرين) أخذتa (عزة الميلاء) الأستاذة الأولى لمدرسة الغناء التي درج عليها من عاصرها أو جاء بعدها. وقد روى صاحب الأغاني أن عزة كانت تغني من أغاني سيرين، وبهذا تكون الموسيقى المصرية القديمة قد وجدت طريقها إلى الجزيرة العربية. كانت (عزة الميلاء) مولاة لبعض بيوت الأنصار، وأطلق عليها لقب الميلاء لما كان يبدو في مشيتها من ميل واختيال. وذكرت المراجع أنها كانت تعزف على جميع الآلات الموسيقية في عهدها وبرعت في العزف على العود. وكانت تغني الغناء القديم لمن سلفها من القينات أمثال سيرين، زرنب، خولة، والرباب. أخذت الفن الفارسي عن نشيط وسائب خاثر في المدينة، (وقد أنشأت على ألحانهما الفارسية صوغاً عربياً استولى على قلوب أهل المدينة وفتن ألباب رجالها وعواطف نسائها).
وأرى أن حفظ الموسيقى في تلك الفترة كان يحدث عن طريق التداول الشفاهي دون تدوين أو تسجيل صوتي، وهذا يعطي احتمالية أن (سيرين) ومن بعدها تلميذتها (عزة الميلاء) قد تكون أضافت بعض الزخارف الغنائية أو عدلت في الألحان الأساسية التي ورثتها عن أجدادها من المصريين القدماء بعض النوتات بما يتناسب مع إمكانات صوت كل منهن، والإضافة أو الحذف على لحن قديم هو أيضاً عملية ابتكارية يمكن اعتبارها بأنها كانت إرهاصات للتلحين النسائي.
وبالنظر إلى جملة (وقد أنشأت على ألحانهما الفارسية صوغاً عربياً) في إشارة إلى عزة الميلاء، يعني أنها ابتدعت أو خلقت صوغاً عربياً عن طريق الإضافة على الألحان الفارسية لمن سبقوها أو عاصروها، وهذه العبارة تشير إلى أنها مارست التلحين إلى جانب الغناء والعزف.
ومن الوقائع اللافتة للانتباه أنه عندما ذاع حديث (عزة الميلاء) وصيتها في الآفاق، وأقبل الناس عليها من كل مكان حتى أفزع ذلك بعض معاصريها من أنصار الصرامة والمتحفظين، فتوجهوا بالشكوى إلى الأمير سعيد متهمين عزة بأنها فتنت أهل المدينة وأفسدت المؤمنين بفن مغر قد نهى عنه الإسلام. فأوفد إليها الأمير رسولاً يأمرها بترك الغناء، فقصد إلى دارها عبدالله بن جعفر، من أشرف الناس مولداً ومكانة وأوسعهم ثراءً وجاهاً، فقال للرسول: (ارجع إلى صاحبك فقل له عني أقسم عليك إلا ناديت في المدينة أيما رجل فسد أو امرأة فتنت بسبب عزة إلا كشف نفسه بذلك لنعرفه ويظهر لنا ولك أمره. فنادى الرسول بذلك فما أظهر أحد نفسه). فقال ابن جعفر وابن أبي عتيق معه لعزة بعدها، لا يهولنك ما سمعت وهاتي فغنينا، فغنته بشعر القطامي:
إنا محيوك فاسلم أيها الطلل
وإن بليت وإن طالت بك الطيل
جميلة: هي مغنية الحجاز ورافعة راية الطرب في العصر الأموي الذي اشتبكت فيه المذاهب الإسلامية وتصارعت، ففيه انقسم المسلمون إلى معسكرات بين شيعة أهل البيت وأنصار الخلافة الأموية من جهة، وبين العدنانية اليمنية من جهة أخرى، وكان الجميع باختلاف مذاهبهم يجمعهم سماع موسيقى جميلة. كانت جميلة جارية، امتازت بالبراعة والذكاء والقدرة على المحاكاة والتقليد وصحة الأداء في البدايات، ثم ابتكرت من عندها بعد ذلك. عاشت في المدينة حتى أُعتقت فتزوجت من أحد موالي الحرث الخزرج، ثم انتقل لها ولاء زوجها فلقبت بمولاة الأنصار. كانت جميلة الأستاذة الأولى في ذلك العصر الإسلامي، ومن تلاميذها في عصري الإسلام الأموي والعباسي: معبد، ابن عائشة، حبابة، سلامة، القس، عقيلة العقيقية، خليدة، ربيحة. وكان لجميلة الفضل في نقلها فناً أجنبياً (فارسياً) ثم تعربه وتغني به غناء عربياً وأبياتاً من الشعر الجاهلي بلغتها، وهي بذلك ألحقت تعديلاً على اللحن والشعر أي أنها مارست التلحين حتى وإن كان في أبسط صوره. الجدير بالذكر أن جميلة قبلة الغناء في المدينة، يؤم دارها المغنون والشعراء من مكة وسائر أقاليم الحجاز.
دنانير: ذكرت في المراجع التاريخية بأنها مغنية مبدعة، ومطربة ومؤلفة، وملحنة ملهمة، الحافظة الراوية، والشاعرة المثقفة. كانت دنانير مولاة لرجل بالمدينة فاشتراها منه يحيى بن خالد البركمي وما لبث أن أعتقها. وقد تنقلت في ثقافتها الفنية بين كبار أعلام الفن الغنائي في العصر العباسي مثل: المغنية بذل وإبراهيم الموصلي وابنه إسحق وابن جامع وفليح. وقد ألفت كتاباً في الأغاني دل على مكانتها العلمية وعلى سمو قدرها الفني.
متيم الهاشمية: نجمة متألقة في العصر العباسي، متيم للبانة بنت عبدالله بن إسماعيل المواكبي مولى عريب. اشتراها علي بن هشام في سن مبكرة وإليه نسبت فقيل الهاشمية. وكانت متيم بارعة في الغناء والتأليف والثقافة. ومن أشهر ألحانها ما وضعته على شعر علي بن هشام بعدما حدث له معها أنه كلمها يوماً فأجابته جواباً لم يرضه فدفعها بيده، فغضبت ونهضت. وتثاقلت عن الخروج إليه. فكتب لها:
فليت يدي باتت غداة مددتها
إليك ولم ترجع بكفِّ وساعد
فإن يرجع الرحمن ما كان بيننا
فلست إلى يوم التنادي بعائد
فصنعت فيه لحناً صرع القلب وأذهل اللب. وغنته فكان شفاء النفس وغذاء القلوب والحس.
عريب: هي جارية من اللاتي يمارسن الفن في دولة بني عباس في أوج عظمتها. بلغت القمة في الموسيقى فناً وعلماً وأداءً وغناءً، وقدمت إحدى وعشرين ألف مقطوعة غنائية. يقول أحد معاصريها في المراجع: (ما رأيت امرأة أضرب من عريب، ولا أحسن صنعة، ولا أحسن وجهاً، ولا أخف روحاً، ولا أحسن خطاباً، ولا أسرع جواباً، ولا ألعب بالشطرنج والنرد، ولا أجمع لخصلة حسنة لم أر مثلها في امرأة غيرها). قيل عنها إنها جارية لعبدالله بن إسماعيل، وإنها بنت جعفر بن يحيى، أي أنها من خير بيوت الوزارة والسلطان، وأمها فاطمة كانت وصيفة عبدالله بن يحيى بن خالد البركمي. وكانت عريب ذات شبه ينم على أصلها البركمي ويدل على أبيها جعفر. كما أن ثقافتها كانت تدل على عراقة وعلو نسب. من الروايات التي تدل على جودة ألحان عريب: (زارها مرة علوية المغني فحفظ منها بيتين وأحسن روايتهما وأداء لحنهما، ثم حضر إلى المأمون ومشى إليه في رقص وتصفيق وهو يغني:
عذيري من الإنسان لا إن جفوته
صفا لي ولا إن كنت طوع يديه
وإني لمشتاق إلى قرب صاحب
يروق ويصفو إن كدرت عليه
فسمع الخليفة من هذا اللحن ما لم يسمع مثله من قبل وسحرهم ما فيه من روعة وبراعة، فاستعادوه سبع مرات).
عريب التي بدأت التلحين وهي لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها، لحنت للشاعر المشهور أبو العتاهية، وانعقد بينها وبين الواثق مباراة شهيرة في التلحين حيث وقفت نداً له عند كل بيت يلحنه تجدد تلحينه بما يفوق مقدرته.
جاء العصر الأندلسي وتم فيه تصنيف الألحان بما يتناسب مع مناسباتهم بشكل تفاضلي، فلم تكن جميع الألحان في مكانة واحدة من التقدير، فقد ذُكر أن تأليف الألحان ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: صنعة الأوتار، وتأليف بعضها إلى بعض، ومعرفة ما فيها من الدلالات على التشاكل، والازدواج، ووجود ما يستقيم منه ويصح، وينقسم إلى ثلاثة أقسام:
- ألحان للهو والطرب والتلذذ والتنعم، ويسمى النعيم.
- ألحان للمرأة والنجدة والبأس والإقدام، ويسمى الجريء.
- ألحان للبكاء والحزن والنوح والرقاد، وتسمى الشجوى.
القسم الثاني: الطنين والألحان ومعرفة مخرجها من الفم، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
- ألحان التسبيح والتهليل والتضرع والتخشع، وهو ألينها.
- ألحان للطرب واللهو، وهو أفخمها.
- ألحان للحزن والنوح، وهو أشجاها.
كما أن طبوع الموسيقى الأندلسية انقسمت إلى ثلاثة أقسام:
- طبوع جريجورية (تواجدت في الغناء الكنائسي قبل الإسلام واستمرت بعده).
- طبوع من أصل أفريقي (يغلب عليها السلم الخماسي).
- طبوع صناعية (تراكيب من الأجناس تخلو من ثلاثة أرباع النغمة إلا فيما ندر، وتتبع نظام السلم المعدل.
قمر: من الجواري اللاتي لحن وغنين وعزفن في العصر الأندلسي، كانت جارية إبراهيم بن حجاج اللخمي صاحب إشبيلية جُلبت له من بغداد. كانت قمر على قدر عظيم من الفصاحة والبيان والمعرفة بصوغ الألحان. كتبت أبياتاً في مولاها تمدحه ولحنتها، تقول فيها:
ما في المغارب من كريم يرتجى
إلا حليف الجود إبراهيم
إني حللت له منزل نعمة
كل المنازل ما عداه ذميم
(ولما أخذ الغناء مكانه في الأندلس لم يبق مختطراً على عامة الناس بل تعدى إلى خواصهم حتى وجد عند أولاد الخلفاء وبناتهم. غير أنه لم يشتهر منه إلا (ولادة بنت المستكفي) فهي لم تمارس هذا الفن إلا للذتها الخاصة وهي في الأندلس كعُلية بنت المهدي في المشرق).
ولادة بنت المستكفي: ظهرت في القرن الخامس الهجري وهو عصر القوة والازدهار في العصر الأندلسي. وهي بنت الخليفة المستكفي بالله، وكانت شاعرة ومغنية وملحنة. لم تذكر عنها المراجع الكثير لكونها ليست من الموسيقيات المحترفات اللاتي ينتقلن من قصر إلى آخر ومن تجمع ثقافي لغيره، إلى جانب أنها ابنة خليفة ولها من الصون ما يمنع الألسنة عن تناقل أخبارها وأخبار ما تقدمه من فنون بحرية. وقد عاشت ولادة تنظم الشعر وتضع الألحان لنفسها ولمجلسها حتى وافتها المنية عام أربعة وثمانين وأربعمئة هجرية.
كانت ولادة (تواقة إلى الغناء مناصرة لنظام الموسيقى الجديد الذي وضعه (زرياب) في الأندلس والذي اتبع فيه النظام البيزنطي القديم وهو النظام الموسيقي نفسه الذي كان سائداً في بغداد. وقد بدأت نغماته تزداد حتى بلغت أربعاً وعشرين نغمة وأصبحت هي المتفق عليها. وهذه الأنغام هي من جملة الأسباب التي أدت إلى وضع نظام الموشحات الأندلسية).
هكذا كانت رحلة نساء العرب مع الموسيقى والغناء، عبر عصور الإسلام وما بعدها، حافلة بالإنجازات الإبداعية العظيمة.