مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

القروي يحطم أسوار سجون اليأس بالإنتاج

وأنا أتابع ترف المعالجات النفسية والاجتماعية من خلال الدراما الرمضانية، انقدحت في ذهني مشاهد من معاناة القرويين قبل نصف قرن من الزمان، وكيف كانوا يتخطون أسوار سجون اليأس، بالاحتيال على الألم والمعاناة بالعمل والإنتاج، وابتكار أساليب ووسائل تنسيهم أحزانهم ومواجعهم ومتاعبهم، وإعاقاتهم، ولاحظت التقاطع الظاهر بين الشعبي والنخبوي، ما يؤكد أن الإنسان هو الإنسان.
ومن تلك الصور التي لا تبرح الذاكرة الموشومة باللون الأخضر، صورة جارنا (السقا بثيرانه) وكان الوحيد الذي له ثوران، أحمر قانٍ، يطلق عليه (صبيح) وأبيض يميل للرمادي، يلقبه (حبيش) وكان في عزّ البرد والشتاء، ونحن ننثل بئر مزرعتنا من أثر التربة التي جرفتها الأمطار، والجو بارد جداً، والسماء معتمة بالضباب، وكأن فضاء قريتنا ليلي، ونحن في وسط النهار، يأتي عم (علي) عاصباً عمامته على رأسه، وينادي من أسفل درج البيت على أبي مستفسراً (محمد بنسرح اليوم ياخي)؟ فإذا قال أبي، توكلنا على الله، ردّ عليه، أنا فدى الصوت، وإذا تعذّر وقال خلها بكرة، يشتم العم علي نفسه ويعيب النهار الضبابي ويصفه بالبوّال.
مرض عمّ علي بداء في ركبتيه، مع مطلع الربيع، ما أعجزه عن نشاطه المعهود، ولأن والدي سبق له العمل في أرامكو، والقصور الملكية (سائقاً)، وكان صديقه طبيب الملوك، رشاد فرعون، رحمهم الله، فتبنى مداواة (أبو حسن) وقام بحفر حفرة بقامة العم علي، وقبل اشتداد حرارة شمس الضحى، أنزله فيها واقفاً، وطلب من أبي أن يترك يديه طليقتين، فوافقه دون أن يسأله، لماذا؟ ودفنه إلى صدره، برمل وفحم مسحوق، وملح، ولأن جارنا عاشق للعمل، طلب من زوجته أن تأتي بالثورين، وحزمة برسيم، وحزمة أعواد ذرة خضراء، وبدأ (يُلقّم) ثوريه، حتى نفد ما بين يديه من قضب وذرة، ولأنه سيظل حبيس حفرته إلى صلاة العصر، استدعى الزوجة وطلب الصوف لينفشه، ويصنع منه حبالاً لنسيج الجبة والأكسية الصوفية، وكنا نتعجب من انهماكه في العمل متناسياً أنه مدفون، وعلى الرغم من أن حركته مقتصرة على الرأس واليدين، لم يكسل، ونحن نندهش لكثرة العرق الذي ينز من جبهته وأرنبة أنفه، ونضحك، ولأن لديه دكاناً، يأتي من يريد الشراء، فيقول له، خذ طلبك، وتعال حاسبني، وهذه الصورة عصيّة على المحو لأنها تعطي انطباعاً عن قدرات الإنسان مهما أحاطت به عوامل اليأس أو الإحباط فالمقاومة الناجحة بالأفعال لا بالأقوال.
وفي أحد الأعوام من سن طفولتي، أتذكر (ناصر) الستيني (الفنّان) الذي فقد اثنين من أولاده، سقطا في البئر، وغرقا، وبمهارة فطرية أقنع العريفة، أن يسهر كل ليلة لحماية الغابة، وكانت حماية الغابة دورية بين الرجال، وحاول العريفة ثنيه، فتحجج، بأن القرى المجاورة تنتهك (حمى القرية) بقطع أشجار العرعر لتسقيف البيوت، وصرم الغطاء النباتي لتغذية البهائم، وقال: خدمة المجموعة القروية شرف، ودون مقابل. وكانت زوجته تدرك أنه إنما اختار حراسة الغابة، ليهرب من أسر الحزن، فمنذ يوم الفقد لم يلذ له منام، وكانت الغابة آهلة بوحوش، لكنه روضها بمزماره (الناي) الذي يسري صوته بالليل، فيثير شجن الأشجار التي تعرف أن الناي (غصن) من إحداها، وكان يصطاد ببندقيته بعض الطيور والأرانب البرية ويعود بها في يده لتشويها زوجته لمن تبقى من أولاد وبنات، فيما تمد له بطير، فيقتطع أحد جناحيه، ولكي يوهمهم أنه يأكل، يحرك فكيه، ويمضغ ولا يبلع لأنه بلا شهية، ويتشوّف مجدداً لغروب الشمس ليعود للغابة.
ويتعذر تجاهل ملامح سيدة عجوز القرية فقدت بصرها، وكانت اجتماعية وفكاهية، ولأن أهل البيت موزعين بين مزارع ومراعٍ وأسواق، وهي بمفردها في بيت ابنها، جعلت البيت مزاراً، تعلّم الصغار القرآن، وتروي لهم الحكايات، وتردد القصائد وسيرة الحفلات، بأسلوب شيّق، فكانت كأنها ملكة نحل في خليّة، والقرية أشبه بخليّة عاملات، يأتيها الصغار والكبار أولاد وبنات، وكل مجموعة لها وقتها، وكل آت معه طبق تمر، أو طاسة لبن، فيا لهذه السيدة التي تجاوزت (أبو العلاء المعري)، فلم ترهن نفسها للعزلة، بل أحالت فضاء يحيط بسريرها إلى حياة، وربما نسيت مع الأنس والألفة أن بصرها غادرها.

ذو صلة