مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

محمد الفيتوري.. شاعر وعاشق أفريقي رائع

إنه الشاعر محمد مفتاح رجب الفيتوري، ولد في الرابع والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 1936، في مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور بالسودان، والده هو الشيخ مفتاح رجب الفيتوري وهو ليبي، وأمه سودانية.
نشأ محمد الفيتوري في مدينة الإسكندرية في مصر، وحفظ القرآن الكريم، ثم درس في المعهد الديني، وانتقل بعد ذلك إلى القاهرة، حيث تخرج في كلية العلوم بالأزهر الشريف.
عمل الفيتوري محرراً أدبياً بالصحف المصرية والسودانية، وعين خبيراً إعلامياً بجامعة الدول العربية في القاهرة، ثم عمل مستشاراً ثقافياً في سفارة ليبيا في إيطاليا، كما عمل مستشاراً وسفيراً بالسفارة الليبية في بيروت بلبنان، ومستشاراً للشؤون السياسية والإعلامية بسفارة ليبيا في المغرب.
يعتبر الفيتوري جزءاً من الحركة الأدبية العربية المعاصرة، وهو من أهم رواد الشعر الحر الحديث، ففي قصيدته (تحت الأمطار) نراه يتحرر من الأوزان والقوافي، ويعبر عن تجربة ذاتية، فيعكس رؤيته الخاصة تجاه الأشياء، وفي قصيدة (معزوفة درويش متجول) يقول:
في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواق
حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق
وزحمت براياتي وطبولي الآفاق
عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق
مملوكك لكني سلطان العشاق
لقد عشق الشاعر أفريقيا القارة السمراء، وكانت مسرحاً أساسياً في نصوصه الشعرية، فتحدث عن محنة الإنسان الأفريقي وصراعه ضد الاستعمار والتمييز العرقي، ونضاله من أجل التحرر، وقد ألف الشاعر عدة دواوين في هذا الموضوع منها (أغاني أفريقيا) (عاشق من أفريقيا) (اذكريني يا أفريقيا)
(أحزان أفريقيا) حتى أصبح الشاعر صوت أفريقيا وشاعرها وعاشقها الذي لا يكف عن حبها والمطالبة بحقوق أهلها.
ومن أشهر قصائد الشاعر اخترت لكم قصيدة (أغاني أفريقيا) التي يتحدث فيها بكم كبير من الحب الإنساني للإنسان في كل مكان، وللإنسان الأفريقي الذي يعاني من الاضطهاد والفقر والتمييز العرقي، لأنه أسود البشرة، هذا الإنسان له حقوق مثلنا، وهو إنسان جميل مهما قسا عليه الزمن وظلمه، وقد صور الشاعر ذلك في قصيدته، وخاطب الإنسان في كل مكان قائلاً:
يا أخي في الشرق في كل سكن
يا أخي في الأرض في كل وطن
أنا أدعوك فهل تعرفني
يا أخاً أعرفه رغم المحن
وهل هناك أجمل من هذا النداء الإنساني المليء بالحب والخير والجمال.
ثم يتحدث الشاعر عن معاناة الإنسان الأفريقي للوصول إلى حقوقه وحريته، فقد عانى من الظلم والوجع والفقد، ونبذوه لأنه أسود البشرة، ومشوا على جراحه بكل قسوة، ولكنه لم يفقد الأمل في الحياة الجميلة، وبقي يناضل، وفي هذا يقول:
إن نكن سرنا على الشوك سنينا
ولقينا من أذاه مالقينا
إن نكن بتنا عراة جائعينا
أو نكن عشنا حفاة بائسينا
إن يكن سخرنا جلادنا
فبنينا لأمانينا سجونا
فلقد ثرنا على أنفسنا
ومحونا وصمة الذلة فينا
ويستمر الشاعر في القصيدة فيتحدث عن أرض أفريقيا لأنها أرض آبائه وأجداده، ويقر بحبه لها، ويدعو لها بالسلم والخير والبقاء، فقد ووري أجداده الثرى هنا، واختاروا المكان سكناً لهم، وسيستمر النسل بعدهم، وستبقى هذه الأرض للأبناء والأحفاد، وسيحافظون عليها ويصونونها من كل شر وأذى، فهي أرضهم وهم أحق بها، وما أجمل هذا الانتماء المليء بالحب والإعجاب عندما يقول:
ها هنا واريت أجدادي هنا
وهم اختاروا ثراها سكنا
وسأقضي أنا من بعد أبي
وسيقضي ولدي من بعدنا
وستبقى أرض أفريقيا لنا
فهي ما كانت لقوم غيرنا
فاسلمي يا أرض أفريقيا لنا
واسلمي يا أرض أفريقيا لنا
وبعد أن سلطت الضوء على هذه القصيدة الجميلة، سأتحدث عن قصيدة أخرى أعجبتني في ديوان الشاعر عندما قرأته، وهي بعنوان (أنا زنجي)، فهو يتحدث فيها عن النظرة الدونية الجارحة التي ينظر بها بعض الناس للإنسان الزنجي الأسود، وكأنه لا حق له في العيش، والشاعر يشجع الزنجي على الكلام والبوح والمطالبة بحقوقه كالأبيض، وعدم الوقوف وراء حاجز اللون الذي يجرحه، وما أحلى هذا التمرد عندما يقول:
أنا زنجي
قلها لا تجبن
قلها في وجه البشرية
أنا زنجي
وأبي زنجي الجد
وأمي زنجية
أنا أسود
أسود لكني حر أمتلك الحرية
أرضي أفريقيا
عاشت أرضي
عاشت أفريقيا
أرضي والأبيض دنسها
دنسها المحتل العادي
فلأمضِ شهيداً
وليمضوا مثلي شهداء أولادي
وفي جعبتي أيضاً قصيدة أخرى جميلة للشاعر بعنوان (عرس السودان) تظهر فيها حميمية العلاقة بينه وبين السودان، بلد أمه الذي حصل فيه أيضاً على الجنسية السودانية، وأثبت أنه وفيّ للدماء السودانية التي تجري في عروقه، وتحدث عن السودان عشقاً دائماً له وشرفة من شرفات التاريخ، يطل منها على الحياة، فيلمح رايات الأمجاد والشموخ، ويفتخر بهذا البلد عندما يقول:
في زمن الغربة والارتحال
تأخذني منك وتعدو الظلال
وأنت عشقي حيث لاعشق يا سودان
إلا النسور الجبال
ياشرفة التاريخ
يا راية منسوجة
من شموخ النساء
وكبرياء الرجال
ويصل بنا المطاف إلى قصيدة (البعث الأفريقي) التي يخاطب فيها الشاعر القارة السمراء، ويطلب منها أن تستيقظ من غفلتها ومن جراحها وأوجاعها ومن ظلامها الذي يغطي جمالها، وهي تعاني من الجوع والاضطهاد، وسلب الحقوق، فكأن هذه القارة حبيبة الشاعر أو أمه أو أخته التي يحرص عليها، يقول:
أفريقيا أفريقيا استيقظي
استيقظي من حلمك الأسودِ
قد طالما نمتِ ألم تسأمي؟
ألم تملّي قدمَ السيدِ؟
قد طالما استلقيتِ تحت الدجى
مجهَدةً من كوخك المجهدِ
مصفرة الأشواق معتوهة
تبني بكفيها ظلام الغد
هذه هي أفريقيا قارة الشاعر التي أعطاها الكثير من حبه وحنانه، وأغدق عليها الحروف لتتحول إلى محبوبة سرمدية يتمسك بها العاشق رغم سوادها وأوجاعها الموغلة في الزمن. ورغم الظلم والتعب تبقى هذه المحبوبة تغازل أحلام الشاعر ويتوق إلى أن يراها حرة خالية من الأوجاع، ويحلم بفجر جديد تنتهي فيه أحزانها وتبدأ أفراحها تتوالى، فتهب أبناءها الكثير من الحب والعطايا، لأنها رمز من رموز الحب لدى أهلها، ولأنها جوهرة سوداء يطمح إليها عشاقها رغم كل حواجز اللون ولعنات الزمن.

ذو صلة