مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

الاكتشافات المتأخرة التي لا تنفع

الاكتشافات المتأخرة التي وصلت لها بعد الأربعين لن تنفعك كثيراً، والمراجعات بعد الخمسين لن تقدمك إلا قليلاً، والتجارب بعد الستين لن تؤثر فيك إلا يسيراً، فوقت الدرس قد فات، والتعلم من الخطأ قد ذهب وقته، ولن يبقى لك إلا الندم على ما فرطت فيه، أو الرضا بأنصاف الحلول، ولن تنفعك المعرفة الجديدة التي نلتها ولن تنفعك التجارب التي أخذتها من السنوات الماضية.
ستعرف بعد الأربعين طرقاً للحفاظ على شعرك الذي ذهب بعد أن أصابك الصلع، وستعرف وسائل للحفاظ على صحتك بعد أن داهمتك أمراض السكر والضغط وهشاشة العظام، وستطلع على طرائق للحفاظ على أسرتك بعد أن أكلها التفكك ودمرها، وستكتشف الوسائل السحرية للتربية يوم أن أصبح أولادك مراهقين وقد أخذوا عنك انطباعاً أنك لن تتغير وبنوا بينك وبينهم سدوداً متينة، واكتشافك لأهمية ذبح القطة لزوجتك لتنال هيبتك لديها لن ينفعك، فزوجتك وصلت للجراءة مما لو ذبحت أمامها أسداً فلن يؤثر فيها ولن يروعها هذا، والطرق المهمة في الاستثمار التي اكتشفتها من تجارب الفقر والكفاح فلن تقدم لك كثيراً، فلن تستطيع المغامرة بما ادخرت من مال في سبيل تحقيق الثراء الموهوم.
ستكتشف أن المراجعات بعد الأربعين لن تنفعك والاكتشافات السحرية بعد الخمسين لن تجدي، والتجارب بعد الستين لن تسمن ولا تغني من جوع، لأن التغيير أصبح مستحيلاً أو ثمنه باهظ، وفي الغالب لن ترضى بدفع ذلك الثمن، فقوتك قد ضعفت، وعزيمتك وهنت، ومغامرات الشباب قد ذهبت مع الشباب.
لا تصدق هؤلاء الذين يقنعوك أن التغيير بعد الأربعين سهل، ولا تفرح كثيراً بتلك القصص من أن فلان أقام مطعمه بعد الستين، وأن فلاناً أصبح شاعراً بعد الخمسين وأن فلاناً بدأ حياة جديدة بعد الأربعين، فهؤلاء يختلفون عنك.
فالمطاعم ملأت البلاد والمنافسة بينها شديدة والحرب بينها قوية، والشعر أصبح لا يصلح مهنة للعيش فعطايا الأمراء ذهبت، وميزانيات الدول لم يبق منها شيء للشعراء، والبداية الجديدة للحياة الجديدة بعد الأربعين أصبحت صعبة.
ما جئت لك لأملأ قلبك باليأس، ولا لأثير الإحباط لديك، ولا لأزين لك التشاؤم والعدمية، وإنما أردت أن أحذرك ممن يبيع لك الأحلام ويغريك بالأوهام، وأردت ألا يلهيك الطموح عن رؤية الواقع، ولا يشغلك الخيال عن مشاهدة المتاح.
قد تكون تلك الحقائق في هذا المقال صادمة لك، ولكنها الحقائق الموجعة بدلاً من الأوهام المريحة، لا أخفيك سراً إن قلت لك إن التغيير ممكن ولكنه صعب، فإن أردت التغيير فانظر لما لديك، فقد تفقد العصفور الذي بيدك ولا تسطيع الإمساك بالعشرة التي على الشجرة، وتخسر بيتك الصغير من أجل شراء القصر الكبير فتفقد بيتك الصغير، ولن تستطيع الحصول ولو على خيمة في الصحراء.
فقد تكون زوجتك الحالية التي تنكد عليك حياتك خير مئة مرة من الزوجة العاشقة التي تنتظرك، فوسائل النكد الحديثة أعظم من الوسائل القديمة منها، وتوقعاتها العالية للزوج المعاصر أعلى مئات المرات من سقفك المنخفض، وأولادك الذين يصدون عنك خير من أولاد المستقبل المرتقب، وما لديك من بيت متواضع بين أقاربك خير من القصر الذي سيكون في منطقة نائية لن يعرفك فيها أحد.
لا تقنع نفسك أنك لن تكرر أخطاء الماضي، ولن تقع في الحفرة السابقة وستحترز من الجحر الذي لدغت منه مراراً، فالواقع يشهد أننا لا نتعلم من أخطائنا، ونكرر خطايانا كثيراً، ونقع في الحفرة نفسها مرات عديدة، ونُلدغ من الجحر مراراً دون أن نعتبر.
ستكتشف بعد التغيير أن الأشياء المنغصة التي لديك خير من الأشياء الصافية التي تشتاق إليها، وسترى أن ما كان لديك كان يخصك أنت وما كنت تبحث عنه إنما هي أشياء معارة ستردها لأصحابها في أجل قصير.
لا تغتر بكلام المدربين ورواد التنمية البشرية والمؤلفين الذين يقنعوك بإمكانية التغيير في خريف العمر، ويخفون عنك الضرائب الخفية لهذا التغيير، هؤلاء يتغذون على رغبتك الداخلية في التغيير ولهفك الشديد للمثالية الغائبة في دنيانا.
قصدي في هذا المقال أن تحافظ على ما تبقى من الأرباح لديك ولا تزيد خسائرك، فتحافظ على ما تبقى من صحتك ولا تدمر البقية بعاداتك القديمة، ولا تقطع الشعرة الباقية من علاقتك مع زوجتك، ولا تبني سوراً أخرى بينك وبين أولادك المراهقين، وحافظ على أموالك ولا تدخل في مغامرات غير مأمونة.
لا مانع أن تستفيد من تجاربك واكتشافاتك في إحداث تغييرات صغيرة في حياتك، لكن لا تظن أن تلك التغييرات ستكون عظيمة، ولكن ستكون صغيرة، والصغير بمرور الزمان يكبر، والقليل مع الأيام يكثر، فتغيرات بسيطة في جوانب حياتك المختلفة ستنفعك وتسعدك وتريحك والتحسينات الصغيرة المتكررة ستنقلك نقلات عظيمة.
الاكتشافات المتأخرة تدعونا للتغييرات الجذرية وهذا غير ممكن، وضريبته باهظة، ولكن المتاح لدينا هو التغيرات البسيطة والتحسينات الصغيرة، وشيء صغير خير من لا شيء.
ارض بما لديك من غنائم، واقنع بما في يديك من العصافير، وغض بصرك عن العصافير الكثيرة التي تظلل الشجرة فوق رأسك، ولا يغرنك طمعك في المزيد فتبدد ما لديك من غنائم، فتضيع بلح الشام دون أن تنال عنب اليمن.

ذو صلة