مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

الأذان.. أصوات تعانق السماء

الله أكبر، تعلو كل ذكر وتحتل كل قمة.
تجلجل الحناجر وتشنف الآذان وتخشع القلوب.
الله أكبر، تعلي الذكر وتطيل الرقاب وتعانق السحاب.
كم أهني المؤذن على رفعه الآذان وأجر متابعته وصمت الوقار وهدوء النفوس، هنيئاً له وهو يؤدي مهمة بلال بن رباح التي اختاره الرسول عليه الصلاة والسلام وكلفه برفع الآذان لحسن صوته، كان ذلك في السنة الأولى للهجرة حينما تداول الصحابة رضي الله عنهم الآراء حول إقامة علامة تشير إلى بدء موعد الاجتماع للصلاة، فمنهم من اقترح رفع راية ومنهم من اقترح قرع جرس والرسول صامت يبدي عدم موافقته على ما طرح، حتى انصرف منه في ذلك المساء الصحابي عبدالله بن يزيد وهو مهتم ومشغول بهذا الشأن وفي صبيحة اليوم التالي أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام متهللاً وجهه بالبشرى وروى له ما رأى في منامه من صفة الأذان فوافقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رؤيا مماثلة وأيده الرسول عليه الصلاة والسلام وطلب من عبدالله أن يروي ما سمعه لبلال لحسن صوته وأمره أن يرفع الآذان فرفعه بلال مسروراً وأجاد أداءه وهكذا انطلقت أول عبارات الأذان من المدينة المنورة بصيغتها المشهورة خمس عشرة جملة، واستمر بلال يؤدي المهمة الجليلة طيلة حياة الرسول وكان أبو محذورة وابن أم مكتوم يبادلانه في بعض الأوقات رضي الله عنهم جميعاً.
وبعد وفاة الرسول ومع كثرة الفتوحات ارتحل بلال إلى الشام وأقام فيها سنوات حتى فتح بيت المقدس في زمن عمر بن الخطاب، فأخذه الحنين والاشتياق إلى أيامه في المدينة مع رسول الله وعاد لها زائراً ورفع الآذان في المسجد النبوي فسمعه أهل المدينة واستقبلوا نداءه بالبكاء شوقاً لرسول الله وحباً له وتذكراً لزمن حياته بينهم.
***
من المدينة المنورة ارتفع نداء (الله أكبر) وانتشر في الآفاق إلى سماء الهند والسند وبلكنات لسانية مختلفة اللغة ومتعددة اللهجة وتنوعت أساليب المؤذنين حتى أصبح فناً قائماً بذاته له رموز ومدارس تؤثر ويستقى منها طرق الأذان، وكان أولها الأسلوب المدني الذي تشكلت منه المدرسة الحجازية ثم الحرم المكي حيث أثرا على جميع أساليب الأذان في مشارق الأرض ومغاربها، نظراً لقدوم الحجاج والمعتمرين واستماعهم لها وتأثرهم بها ثم نقل التجربة إلى دولهم حيث اشتهر بدءاً أذان الكوفة ثم توالت الطرق حتى غدا لكل شعب أو إقليم طريقة خاصة تعكس ثقافته وفنونه، واعتنت الجوامع الكبيرة باختيار أفضل الخامات الصوتية وأجود الأداء فظهر الأسلوب المصري من الجامع الأزهر تحديداً والأسلوب المغربي والتركي والنجدي والعماني واليماني.
ومن مظاهر العناية بالأذان أن هناك أسراً توارثت أداءه أباً عن جد، ولأجيال متعاقبة وبخاصة في المسجد الحرام منها مثلاً أسرتا الملا والعباس، وفي الرياض أسرة الماجد الأب عبدالعزيز والابن عبدالرحمن إذ استمرت فترتا أذانهما مجتمعتين نحو قرن من الزمن.
من المؤذنين المتميزين بعذوبة الصوت وحسن الأداء إبراهيم محمد حسن العباس الذي عاصر استخدام مكبرات الصوت لأول مرة في رفع الأذان في المسجد الحرام عام 1368هـ حينما كان يعاون والده وينوب عنه في بعض الأوقات حيث كان يرفع الأذان 6 مؤذنين على الأقل في الوقت الواحد يبدأ قائدهم في المنارة الرئيسة ثم الآخرون الموزعون على المنارات في جهات المسجد الحرام، ومثله المسجد النبوي، فإذا رفع المؤذن الرئيس (الله أكبر) تبعه الأقرب ثم الأبعد حتى ينتهي الأذان، أما عندما استخدمت مكبرات الصوت فاستبدل ذلك بوضع سماعات صوتية على المآذن وتم الاكتفاء بمؤذن واحد وآخر معاون له.
من أشهر المؤذنين في العصر الحديث شيخ المؤذنين في المسجد الحرام علي أحمد ملا الذي تميز في طريقة أذانه وصوته العذب وتفننه في الأداء حتى لقب بـ(بلال الحرم) واستمر يؤدي المهمة لمدة 45 سنة، وقد كان له تأثير كبير على المؤذنين في عصره من داخل المملكة العربية السعودية وخارجها.
***
ومن المدرسة الحجازية بأسلوبيها المدني والمكي ننتقل إلى وسط المملكة حيث ينتشر الأذان بالصوت النجدي المنطلق من أقصى الحنجرة إلى آفاق الصحراء الشاسعة وثنائيتها تلاوة القرآن بالقراءة النجدية المتميزة ولازلت أستمتع بسماع هذه الأصوات في مساجد الدرعية التي تحافظ على التاريخ والذاكرة السمعية والطراز المعماري في بناء المآذن.
وفي الرياض العاصمة السعودية الحديثة انطلق صوت شجي تزامن مع بدايات الإذاعة فتعانق في فضاء الأثير وبلغ التأثير أن استحسن الناس سماع المذياع بعد أن كان الكثير يتحفظون على سماعه لولا أذان عبدالعزيز بن ماجد الذي لازمهم وارتبط في أذهانهم على مائدة الإفطار في رمضان حيث اختط لنفسه أسلوباً فريداً أصبح له أصداء واسعة وتلاميذ اقتفوا أثره وتأثروا بطريقته البديعة.
بدأ ابن ماجد من مسجد الأمير ناصر وبقي سنين حتى عرف واشتهر وانتقل إلى جامع الإمام تركي بن عبدالله وبقي لأكثر من ثلاثين سنة وقبلها مثلها في مسجده الأول ليمتد فترة أذانه نحو سبعين سنة وهو يؤدي الأذان بطريقته الخاصة التي صقلها واستوت على جودة الأداء ثم تربع على أثير الإذاعة السعودية وأصبح أحد معالمها الصوتية فعرفه أهل الخليج والدول العربية والإسلامية وأصبح مؤسساً ورمزاً للمدرسة النجدية في أداء الأذان. ومن المواقف المؤثرة أنه أثناء تجديد بناء الجامع وتطلب ذلك هدم المئذنة القديمة وبلغ أنه آخر آذان له بها وأثناء الأذان تحشرج صوته وبكى وتأثر بذلك كل من سمعه ووصل الخبر إلى الشيخ ابن باز فأثنى عليه ودعا له.
توقف ابن ماجد آخر حياته وسلم المهمة لابنه عبدالرحمن الذي واصل الأذان لأكثر من عقدين من الزمن وبقي ذكرهما حياً وأثرهما طيباً كشجرة في الأرض وفرعها في السماء.
هؤلاء هم المؤذنون أطول الناس رقاباً وأجلّ أصواتاً، رفعوا ذكر الله فرفع الله ذكرهم وأعلى شأنهم، ومن اللطائف أن أختم بمثل ما بدأت به، أنه تروى حكاية في إحدى القرى النجدية أن مؤذناً ظل سنين طويلة يؤدي الأذان محتسباً وبعدما توفي رأت جارة المسجد أنه يمشي بين الناس برقبة طويلة فعبر لها تعبير حسن يدل على عظم أجر المؤذنين وأن ذلك مصداقاً لما جاء في الحديث: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة).

ذو صلة