مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

فن عمارة الواحات في رحلة شارل دوفوكو

تختلف الأهداف التي من أجلها انطلق الرحالة في تحركاتهم، لذلك يركزون على جوانب مختلفة في كتاباتهم. شكلت الرحلة الجاسوسية واحدة من الرحلات التي عرفتنا على تاريخنا في نقاط مختلفة. مثل كتاب «التعرف عل المغرب» لشارل دوفوكو، وثيقة مميزة تتحدث عن المغرب في لحظة من لحظات ضعفه. زار الجنوب الشرقي وترك لنا أوصافاً مهمة عنه وعن بيئته وجغرافيته وتربته وبدرجة كبيرة ما يتعلق بعمارته.
ما يطبع كتابة دوفوكو هو الدقة التي تعنى بالتفاصيل، إذ يتحدث عن المواقع التي توجد بها القصور وأشكالها والمباني وزخارفها وغيرها من الأمور التي تعطينا تصوراً واضحاً عن ثقافة البناء في هذه المنطقة، بل إننا نستمد منها مقارنات مع مناطق أخرى قريبة أو بعيدة من هذه المنطقة.
يتحدث عن رحلته إلى واحات تدغة وفركلة وغيرهما، وأهم القصور المتواجدة هناك، والأوضاع التي كانت تعيشها المنطقة، يذكر مسميات القصور والمسافات الفاصلة بينها، والعلاقات التي تطبعها، كما يعقد مقارنات بينها وبين أماكن أخرى على المستوى الزخرفي والإنشائي. يقول بعد أن خرج من قصر السوق، وتجاوز تمراكشت:
(منذ غادرت حوض تدغة وفن العمارة يسجل تدنياً. كان هذا الفن قد احتفظ بالرشاقة حتى منطقة قصر السوق، وفي تيعلالين لم يعد وجود لهذه الرشاقة. البنايات من مقدار ودون زخرفة. توجد تيغرمتين لكن جدرانها الأربعة المزدوجة بأبراج في أقصى البساطة. لا تقطيعات ولا تنميقات بهذه الجدران (..) من هنا إلى وجدة ستذكر البنايات بتلك البنايات الموجودة في تادلة وآيت عتاب والنتيفة. ليست البنايات في تيعلالين فقط أقل رشاقة مما كانت عليه في دادس ولكنها أيضاً أقل عدداً).
ما يلاحظه القارئ هو احتفاء دوفوكو بالعمارة المحلية على حساب عمارات أخرى في مناطق تادلة ووجدة وغيرهما. يظهر هذا الاحتفاء العلاقة الإيجابية التي ميزت هذا الرحالة بالمنشآت التي كان يراها، إذ لم يشر لها أي إشارة احتقارية، وذلك بخلاف الوضعية التي كانت تعيشها المنطقة في هذه الأثناء، إذ كانت في وضعية متوترة جداً. لقد وصف الأشخاص وتصرفاتهم والعلاقات بين الجماعات، ونجده في محطات كثيرة يتحامل على المنطقة، غير أنه في حديثه عن فن العمارة نراه مفتتناً بما رآه وسكنه ومر أمامه.
لقد تغيرت النظرة الهامشية التي كانت تمنح للمنطقة، إذ أسبغت على هذا الكون وضعية أخرى. وهذا ما يؤكده هنري تيراس حين زار المنطقة بالقول: (وهي (الواحات) الأكثر كثافة سكانية، وغالباً الأكثر غنى في أفريقيا الشمالية).
يخالف دوفوكو عدداً من الكتاب الذين كتبوا عن عمارة المغرب بشكل عام، من قبيل غابرييل فير صاحب كتاب (في صحبة السلطان)، والذي كان مصوراً للسلطان المولى عبدالعزيز. إذ كان ينظر إلى مختلف المنشآت التي أحدثها نظرة دونية، وهذا شبيه لما سبق وأن قاله بيدو دو سان أولون عن منشآت المولى إسماعيل، مع العلم أنها منشآت تعبر عن هيبة الملك وجلاله.
إن شارل دوفوكو كان متصالحاً بشكل كبير مع عمارة الواحات، وهو تصالح يبرزه الاحتفاء الشديد المتجلي في أوصاف تعلي من شأن ما رأى وتظهر الراحة النفسية التي كانت تقابل بها العين ما تشاهد. لذا، سيتحدث عن عدد من القصور التي صادفها في الطريق، حيث يقول عن قصر أزدف، وهو قصر من قصور زناكة، ما يلي:
(مررت قرب عدد كبير من القرى والقصور وأهمها قصر أزدف، حيث سكنى الشيخ. إنه قلعة تحيط بها عدة أسوار وتنتشفها عدة أبراج. القلعة من المقدار مثلما هي عليه كل بنايات زناكة ومنمقة بأناقة. صادفت أيضاً عدة زوايا).
وإذا كان سكان هذا القصر مستقرين، نظراً لطبيعة المناخ السياسي الذي يحكم المكان، وللصراعات المتواجدة بين القبائل والفخذات، فإننا نرى قصوراً أخرى لرحل يبنونها فقط كمخازن أو ملاجئ يحتمون بها من الأعداء في أوقات الأزمات. لكنهم يفضلون العيش في الخيام والكهوف في أوقات الأمن والهدوء. وصل دوفوكو إلى قصر تساونت فقال عنه:
(تساونت قصر صغير ينتمي إلى فخذة أيت حمو وهي فخذة مهمة لأولاد يحيى. شيد القصر من المقدار حسب نموذج البناء في درعة. به عدد كبير من الناتئات وتنميقات تكسو الجدران وأبراج مشرفة على سطوحها(..) في هذا الوقت كان القصر خالياً من السكان. إنهم منتشرون بجواره. يعيش السكان في أكواخ من قصب ويصاحبون قطعانهم إلى المراعي).
يؤكد ما قاله دوفوكو هنا ما أشار إليه القبطان جورج سبيلمان عن قبائل آيت عطا، وعن مساكنهم والأسباب التي تدفعهم إلى اتخاذ السكن في الخيام رغم تواجد قصور مبنية بطريقة جيدة إلى جانبهم:
(لا يحب العطاوي العيش في جماعة ومغلقاً داخل القصر، ولا يضطر لذلك إلا لسكنى تجمع احتل بحد السيف مثل ما حدث في درعة وفركلة، وكلما استطاع ذلك يفضل أن يكون له منزله أو تيغرمت خاصة مبنى ليس ببعيد عن جاره ولكنه منفصل. وتيغرمت عبارة عن قليعة محصنة بأبراج في الزوايا غالباً ما تكون جيدة البناء، رشيقة وفارعة وجسورة).
فرضت حياة الترحال الاحتفاء بالخيمة، لكن ذلك لم يمنع من تشييد قصور جميلة وأنيقة، يتمثل دورها الأساس في الحماية لا غير. وهذا الأمر أشار إليه القبطان سعيد كنون حين تحدث عن قبائل آيت أومالو رغم اختلاف الطبيعة والمناخ وعدد من الجوانب.
تؤكد الإشارات الواردة عند دوفوكو أن الواحات كانت خصبة وغنية، وهذا ما تجسد في مساكنهم وأشكال قصورهم. إذ تنعكس الحياة الاقتصادية والاجتماعية المتميزة على كل المظاهر الفنية من قبيل الملبس والعمارة. لكننا مع هذا الجاسوس لا نجد أبداً معالم الحياة المدينية، من تواجد صناع وتجار ونظم سياسية حاكمة تربطها علاقات واضحة بالسلطة المركزية. ما يعني أننا إزاء أنظمة تكاد تكون مستقلة، غير أنها غنية رغم حالة اللااستقرار التي تعتريها من حين لآخر. يقول دوفوكو عن وضعية القصور المحاذية لوادي درعة:
(في كل مكان تظهر آثار ساكنة غنية: تنبت خضر تحت ظل النخيل والأشجار المثمرة إلى جوار الحبوب. وتبدو عرائش الكروم ومقصورات من مقدار: إنها أماكن الراحة حيث يقضي المرء ساعات القيلولة تحت الظل وبين أحضان الطراوة (..) ينتشر عدد الأولى للإبطين: يوجد عدد قليل من هذه القصور في الوادي إما اقتصاداً لتربة ثمينة أو خوفاً من الفيضانات. لجميع القصور مظهر الأناقة هذا، وهو مظهر خاص ببنايات الدرع. لا يوجد بتاتاً حائط واحد دون ناتئات أو دون رسوم تخترقه شرفات مجيرة، وتنتصب في كل مكان تغرمتن عالية وأبراج، وحتى المساكن الأكثر فقراً بها كثير من القبات الصغيرة والشرفات المقوسة والحواجز المفرغة).

ذو صلة