مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

مملكة أوغاريت.. أبجدية التاريخ وأهم كنوز الحضارة السورية

أوغاريت من أهم وأقدم الممالك الأثرية في سورية، تقع في شمال مدينة اللاذقية على تل أثري يدعى رأس شمرا، وفي موقع يقال له حالياً رأس ابن هانئ، وتبعد عن مدينة اللاذقية باتجاه الشمال نحو 15 كم على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وتعود إلى العصر الحجري، وكان لها موقع مهم بين حضارات الشرق الأوسط القديم، خصوصاً بما تحتله من موقع بحري عريق جعل منها نافذة على الدول المجاورة حتى إن بحارتها وصلوا بحر إيجة. وقد ورد اسمها في العديد من الوثائق الكنعانية القديمة.

اكتشاف مملكة أوغاريت
تم الكشف عن مملكة أوغاريت بمحض المصادفة، بينما أحد الفلاحين يحرث أرضه، فإذا بمحراثه يرتطم بحجارة ضخمة تبين أنها سقف منحوت لمدفن أثري عائلي كبير موغل في القدم، وكان ذلك في موقع يقال له رأس شمرا عام 1928م

سبب التسمية
رأس شمرا هذا اسم المكان الذي اكتشفت فيه مدينة أوغاريت، فنبات الشمرا معروف ليس في سورية فحسب بل في العديد من الدول المحيطة بها وغيرها وبالاسم نفسه، من هنا جاء سبب تسمية المكان برأس شمرا، هذا النبات الذي يغطي مساحات شاسعة من ذلك التل وحتى الآن.
أما سبب تسمية أوغاريت بهذا الاسم، فيعود إلى الاشتقاق من كلمة (أوغارو) التي تعني باللغة الآكادية الحقل. وكانت (أوغاريت) في القرنين الرابع عشر والخامس عشر قبل الميلاد عاصمة لمملكة صغيرة، وتسميتها مأخوذة من أوغارو، أي الحقل في السومرية. كما تعني الأرض الخضراء أو المزرعة أو السهل، وربما قصد بالتسمية القلعة المحاطة بجدار عال والتي كانت تمثل أوغاريت القديمة.

أقسام مملكة أوغاريت
تتألف مدينة أوغاريت من قسمين؛ القسم الأول: المدينة المرتفعة، ويتضمن الأبنية الضخمة كالمعابد والقصور، أما القسم الثاني من المدينة، فهو قسم منخفض يتضمن بيوت عامة الناس. كما تم إحاطة المملكة بشكل عام بسور منحدر، يمتاز بقاعدته العريضة، تتداخل فيه الأبراج القوية، كما تتخلله البوابات الكبيرة على هيئة الكماشة التي يعتقد أن أوغاريت احتوت على أربعة منها. كما احتوت البيوت على آبار مياه وحمامات وتمديدات أخرى وفق تنظيم أقنية وشبكة توزيع وتصريف للمياه بشكل دقيق.

أهم قصور المملكة المكتشفة
القصر الملكي الكبير الذي يعود تاريخه إلى القرنين الثالث عشر والخامس عشر قبل الميلاد، يقع وراء الأسوار وقد بُنِي من الخشب والطين، ومساحته تتجاوز عشرة آلاف متر مربع. مدخله مكون من شرفة ضخمة باتجاه الغرب ومدعومة بعمودين، وهناك فناء مرصوف يصل إلى باحة ثانية مؤدية إلى قاعة العرش المحاطة بأركان صغيرة، كانت تستخدم لتخزين المحفوظات الملكية. وراء قاعة العرش سلسلة من الفسحات المستديرة المزينة بالبرك مع بعض القنوات التي لا تزال مرئية حتى عصرنا الحاضر. حول هذه الفسحات تتواجد العشرات من الغرف الصغيرة مع الأدراج المؤدية إلى الطابق العلوي المخصص للعائلة المالكة.
يضم القصر تسعين غرفة تلتف حول خمس باحات مكشوفة بينها حديقة وأربع باحات صغيرة مسقوفة، ويتألف من طابقين يضم الطابق السفلي قاعات الاستقبال وملحقاتها إضافة إلى الأرشيف والمكاتب والمخازن والمستودعات والحرس والخدم بينما خصص الطابق الأعلى لسكن العائلة الملكية.

أهم الاكتشافات في أوغاريت
عثر في أوغاريت على العديد من اللقى الأثرية من بينها تماثيل الآلهة المقدسة صغيرة الحجم المصنوعة من الذهب والبرونز والحجر ومن أهمها تمثالان: إيل وبعل، وهما مطليان بالذهب، إضافة إلى تماثيل لآلهة وبشر وحيوانات وطيور موشاة بالذهب، كما عثر على مئات القبور الحجرية أيضاً.
والأهم من كل ما ذكر هو العثور على مئات الرقم الطينية التي كُتبت باللغة المسمارية، وهنا يكمن سر الكشف عن حضارة أوغاريت العريقة. كذلك عثر على مجموعة كبيرة من المجوهرات والحلي وأدوات الزينة والأختام الأسطوانية والأواني الفخارية والمعدنية، إضافة إلى عدد من الأنصاب الحجرية.

الأبجدية الأوغاريتية
إن اكتشاف الأبجدية الأوغاريتية من أهم الدلائل على الحضارية العريقة التي كانت تتمتع بها مملكة أوغاريت، وكان ذلك في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وتشهد الوثائق الكتابية التي اكتشفت في أوغاريت على وجود ثماني لغات كانت متداولة في مملكتها وهي الأوغاريتية والآكادية والحورية والحثية واللوفية والسومرية والمصرية والقبرصية.
الأبجدية الأوغاريتية: كانت تستخدم في كتابة الأبجدية المحلية، وقد اعتمدت في التدوين ما بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر، حيث كُتبت بها النصوص التي تدور حول الحياة اليومية بوصفها وثائق خاصة، والعقود التجارية، والرسائل والمبادلات العائلية، ومخطوطات الطقوس الدينية، وبعض الأمور التي تتعلق بالآلهة.
كانت الأوغاريتية وحدها تستخدم لتسجيل الأساطير المتعلقة بالتقاليد المحلية. هذه الكتابات تشهد الروابط مع قصص الكتاب المقدس، مما يدل على وجود صلة وصل ثقافية مشتركة التي جرى تسميتها (الكنعانية). ومن الملاحظ أن الأبجدية الأوغاريتية قد كانت تكتب من اليسار إلى اليمين.
الأبجدية الأكادية، لغة آشورية وبابلية ظهرت في بلاد ما بين النهرين، وأصبحت لغة دولية في الألفية الثانية قبل الميلاد. هذه الكتابة كانت مدونة بالخط المسماري المقطعي، وقد استعملت هذه اللغة في الإجراءات الإدارية والقوائم الرسمية من الشخصيات والقوائم الجغرافية. وكانت متداولة في المراسلات الرسمية لمملكة أوغاريت مع القوى السياسية في تلك العهود.

الفن الأوغاريتي المميز
عمد الإنسان الأوغاريتي إلى استخدام فن الزخرفة بكل أشكالها، وأبدع في ذلك أيضاً، فرسم الحيوانات والطيور، كذلك أبدع في رسم الكائنات الخرافية، ورسم الأسود والوعول والثيران ومشاهد الصيد، هذا ما يدل على الخيال الخصب الذي امتلكه الإنسان الأوغاريتي، وبرز هذا جلياً في تلك اللقى الأثرية النادرة.
أما موضوع النقش على الأواني المعدنية فقد كان منتشراً بشكل واسع في أوغاريت، ويدل على النظرة الجمالية التي كان يمتلكها الإنسان الأوغاريتي.، حيث تم اكتشاف قصعة من الذهب الخالص قطرها 17سم نقشت عليها أشكال متنوعة.
ومما يدل على تمكن أوغاريت من فن العمارة هو بناء المساكن وتنظيم المدينة، ويشهد على ذلك تنظيم الشوارع والصرف الصحي وتمديدات قنوات المياه أيضاً، وهذا ما نجده في القصر الملكي الموجود حتى اليوم في مقدمة التلة التي تتربع فوقها مملكة أوغاريت.

الختم الأسطواني
المدهش في أمر اكتشاف مملكة أوغاريت هو اكتشاف الختم الذي كانوا يستعملونه حينذاك، حيث يعد تحفة فنية لا مثيل لها.
الختم عبارة عن قطعة أسطوانية مثقوبة بشكل طولاني في وسطها، تتراوح أطوالها بين خمسة وعشرة سنتيمترات، وقطرها حسب الموضوع المراد نقشه ويعادل نصف الطول تقريباً، وكانت الأختام تصنع من مواد مختلفة، فقد استخدم الحجر الكلسي الهش وما يشبهه، ثم ينقش الموضوع نافراً أو غائراً، ويظهر حين تسحب الأسطوانة على سطح طري. وقد تم التعامل به داخل المملكة وانتقل إلى العديد من الممالك المجاورة، وبقي التعامل والتداول به حتى يومنا هذا.
لقد مرَّ الختم في تطورات من حيث الصناعة، فقد استخدمت في صناعته المواد القاسية مثل حجر الهيماتيت، وقد قيل إن الخشب كان من المواد المستخدمة غير أنه لم يستطع مقاومة التلف مثل الحجارة والمعجونة الزجاجية.
كانت الحاجة إلى استخدام الختم في المناسبات الدينية الطقسية وغيرها، كأن يسجل حالة إيفاء النذر أو القيام بطقس لأجل إله أو نيابة عنه، فممارسة الصيد والحرب كانت تجري على شرف الإله الشخصي أو المحلي لصاحب الختم أو نيابة عن ذلك الإله، وهنا تألقت تقنية الفنان الأوغاريتي على عكس غيره من الفنانين في آشور وسومر، حيث قام بتشكيل آلهته على شكله وبالتالي نجد همومه ومسائله وقضاياه بكل طقوسها ونذورها تحيط بهذا الإله وتحمله مسؤولية كل ما يحصل.

أهم الآلهة التي عبدت في أغاريت
الإله بعل: كلمة بعل تعني في اللغة الكنعانية السيد والمالك والزوج، وقد انتشرت عبادة الإله بعل في كل ديانات الشرق الأوسط القديم، ويعد إله الخصب والعاصفة والمطر والبروق والرعود، وحسب النصوص الدينية الأوغاريتية، فإن موطن بعل كان في جبل صابان، وهو جبل الأقرع في سورية حالياً الذي يقع على بعد خمسين كم من موقع أوغاريت، وقيل: هو نفسه جبل الأولمب السوري الذي يقابله جبل الأولمب عند الإغريق.
ختاماً نقول: إن اكتشاف مملكة أوغاريت يعد نافذة واسعة للاطلاع على أهم جذور الحضارة السورية العريقة التي أظهرت مزايا الإنسان القديم وطبيعة تفكيره ونمط حياته، مما يجعلنا في دهشة حياله، فكيف استطاع بناء مملكة خالدة على الرغم من امتلاكه وسائل وأدوات وتقنيات بسيطة.. لكنه تمكَّن من إثبات وجوده رغم كل الصعوبات.

ذو صلة