مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

شوقى جلال.. من رواد الترجمة في عالمنا العربي المعاصر

شوقي جلال (1931 - 2023م) مترجم ومفكر مصري، يعد من أبرز المترجمين في عالمنا العربي المعاصر، رحل في 17 سبتمبر 2023م، بعد رحلة عطاء كبيرة للثقافة العربية، حيث قدم فيها -رحلته- الكثير من الإسهامات الفكرية إلى المكتبة العربية، وبخاصة ما قدمه في حقل الترجمة.
وُلد شوقي جلال بالقاهرة عام 1931، ونشأ في أسرة مُحِبة للثقافة، فقد كانت والدته من أسرة صوفية، أمَّا والده كان واسع الأفق، لديه شغف بالقراءة والعلم والموسيقى، وهذا كله كان له أثر كبير على عقليته -جلال شوقي- وراح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حيث التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، ونال درجةَ الليسانس عام 1956م. وبدأت رحلته الفكرية والثقافية منفتحاً للتعرف على مختلف الثقافات، فقرأ عن البوذية والكونفوشية، وفلسفات العرب.
كانت رحلة (شوقي جلال) الثقافية حافلة، إذ قدم للمكتبة العربية العديد من المؤلفات التي تنوعت بين الترجمة والتأليف، وإن كانت الأولى -الترجمة- هي الأوفر حظاً من إنتاجه العلمي، وهذا كله لم يكن ليتم إلا بتَفرغه للترجمة والتأليف، وبالإضافة إلى ذلك فقد كتب في الكثير من المجلات والدوريات العلمية في مصر والعالم العربي منها: صحيفة الأهرام ومجلة العربي الكويتية، وما قدمه للمكتبة العربية من كتب مُترجَمة أو مُؤلَّفة فقد عكس هذا الأمر بل وكشف عن تبنيه لمشروع فكري تنويري، وانشغاله بالهوية العربية والمصرية بصفة خاصة.
شغل (شوقي) عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتاب المصريين، واتحاد كتاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية).
نال (شوقي) العديد من الجوائز خلال مسيرته، من أبرزها (جائزة رفاعة الطهطاوي) من المركز القومي للترجمة بالقاهرة عام 2018م عن ترجمته كتاب (موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا)، وجائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي.
من أهم الأعمال المترجمة التي قدمها شوقي جلال للمكتبة العربية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: كتاب التراث المسروق، وكتاب لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟ الثقافات البشرية: نشأتها وتنوعها، وكتاب التنوير الآتي من الشرق.. اللقاء بين الفكر الآسيوي والفكر الغربي، وكتاب الثقافة والمعرفة البشرية: دراسة مقارنة بين أطفال البشر والرئيسات، وكتاب جغرافية الفكر: كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف ولماذا؟ وكتاب الآلة قوة وسلطة: التكنولوجيا والإنسان منذ القرن 17 حتى الوقت الحاضر، وكتاب التنين الأكبر: الصين في القرن الواحد والعشرين... وغيرها.
ومن هنا كانت الترجمة عند (شوقي) رافداً أصيلاً وأساسياً للتواصل الحر بين مختلف الثقافات والحضارات من أجل تعاون بناء وواقع مثمر للإنسان العربي المعاصر نحو التقدم حيث يقول: (ليست الترجمة كما قلنا نقل معارف فحسب، بل تواصل حر بين الحضارات، ولا يكون هذا التواصل مثمراً إلا حين تُفرِّقنا روح المغامرة الإنسانية التي يزكِّيها نهم معرفي لاستيعاب إنجازات وفتوحات العلم المرتكز على عبقرية الإنسان من أجل تغيير الواقع الثقافي والبناء الاجتماعي نظراً لحاجتنا المُلِحة إلى ذلك في ظل تسارع تكنولوجي، ومن هنا نكون بنائين للحضارة عن وعي وإرادة وعقلانية، حيث إننا قد ننقل نصوص النظريات أو المصطلحات، ولكن يظل حديثنا بها رطاناً، لأننا لا نستطيع أن ننقل الرأس المبدع ولا حياة وتاريخ النشاط الإنتاجي الخالق له).
لذلك كان مفهوم الترجمة عند (شوقي) هو حوار بين الحضارات يشمل كل مجالات المعرفة سواء كانت علوماً إنسانية أو طبيعية، ومن هنا كانت -الترجمة- أداة اكتساب وأداة تعبير وعزم للإنسان على استيعاب أكبر قدر من المعارف الإنسانية التي هي سلاح له -الإنسان- نحو التطور والمنافسة والتقدم والأخذ والعطاء على المستوى الحضاري تعزيزاً للوجود.
فالترجمة عند (شوقي) نشاط اجتماعي، وأداة للمجتمع للتفاعل مع الجديد من العلوم والمعارف والفنون والإنسانيات كما أنها تمثل عاملاً أساسياً ضمن مجموعة عوامل متكاملة للتقدم الحضاري، وباتت الترجمة اليوم أكثر لزوماً مع السرعة المذهلة التي نشهدها في مظاهر التقدم العلمي والتقني على المستوى العالمي، فتصبح الترجمة بصورتها هذه تعبيراً مكثفاً عن المجتمع في تحولاته الإنسانية الشاملة، بل على كافة المستويات، ومن هنا يرى شوقي أن الترجمة إنما هي دعوة لإعادة تكوين البنية الذهنية للإنسان العربي المعاصر. ومن هنا كانت الترجمة نشاطاً اجتماعياً تنويرياً واستقلالياً داعماً للنهضة والتحديث، بدأت في مصر أبان عهد محمد علي، بدعمه للشيخ رفاعة رافع الطهطاوي الذي أرسله محمد علي في بعثة علمية للغرب، وعند عودته جعل الترجمة مؤسسةً اجتماعية هدفها إنجاز مشروع قومي اجتماعي شامل لجميع أنشطة الحياة، وتحقيق نهضة ثقافية واجتماعية وعلمية وصناعية واقتصادية.
وعلى الرغم مما حققته الترجمة في عصر محمد علي إلا أن نشاط الترجمة في العصر الحديث للعالم العربي تعثَّر أو انحسر بعدما أصابت جهود النهضة انتكاسة بسبب الدور الاستعماري الغربي، لكن لم تطل هذه الانتكاسة على حد قول (شوقي)، فقد بدأت صحوة جديدة للترجمة مع مطلع القرن العشرين قرينة صحوة فكرية وثقافية واجتماعية وسياسية للمطالبة بالاستقلال عن الاستعمار والتحرر منه. فقد برز أعلام للفكر العربي، كما نشأت مؤسساتٌ للترجمة والتنوير في إطار رؤية قومية لتحصيل علوم الحداثة التي هي أساس نهضة الغرب وازدهاره، وهذا يعني أن الترجمة تعد أداة قوية في سبيل النهوض بالمجتمع العربي في كل جوانبه الفكرية والثقافية والاجتماعية.
لهذا فإن النهوض بالترجمة عند (شوقي) لا يكون إلا بشرطَين: الأول: عقد العزم المجتمعي على إنجاز نهضة شاملة لكل مجالات النشاط والحياة في المجتمع من سياسة وإدارة وتعليم وتأويل واجتهاد ديني عقلاني حر، وبحث علمي دون قيود من خارج المنهج العلمي في البحث والتفكير في تناسبٍ مع تحديات ومقتضيات حضارة العصر، والثاني: أولوية إعادة تنظيم البنية الذهنية للإنسان العربي في إطار رؤية نقدية لواقعنا راهناً وتاريخاً، وترسيخ ثقافة الفعل الاجتماعي، والانفتاح على الفكر العالمي في تعدده، والهدف بناء عقل جديد لإنسان جديد لكي يظل قادراً على مواجهة التحديات الثقافية في ظل هذا التسارع التكنولوجي والتقدم التقني.
وقد أبان (شوقي) عن نقطتين وثيقتا الصلة بموضوع الترجمة وموقف العرب من الترجمة، هما: موضوع دراسات جادة ومتطورة على الصعيد العالمي، وقد بدأت في العقدَين الأخيرَين، كانت الأولى: دراسة المنتج أو العائد الثقافي للترجمة إلى ومن العربية، مع دراسة مقارنة في الزمان بين مراحل وعصور نشاط الترجمة، وكذا مقارنة مع المجتمعات الأخرى، ولكن (شوقي) يرى أن البلدان العربية تفتقر لمثل هذه الدراسة على الرغم من أنها تحظى باهتمام واسع مع بداية مرحلة نهاية الاستعمار الغربي الأوروبي، والمراجعة لكل تراث التنوير. والثانية: أن الترجمة في عصر العولمة أو عصر ثورة المعرفة أو ثورة الاتصالات أو لنُسمِّها ما شئنا، وكذا الترجمة في إطار صراع الوجود تأسيساً على المعرفة فيما بين المجتمعات ضماناً للسبق الحضاري والمَنَعة الحضارية وليس مجرد البقاء، وغني عن البيان أن الترجمة عموماً تعد من أهم آليات التواصل المعرفي على الصعيد الكوكبي.
نخلص من هذا أن (شوقي) اعتبر الترجمة مشروعاً ثقافياً عربياً هدفه إثراء الفكر والثقافة العربية بالانفتاح على الثقافات الأخرى في ظل ثورة المعرفة والتكنولوجيا المتقدمة، وفي ظل عصر العولمة الذي أصبح العالم في ظله قرية صغيرة متقاربة في شتى النواحي والمجالات.

ذو صلة