مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

لأن (الحب والكراهية) هما الأهم في الحياة.. هل إخفاء مشاعرنا وراء غيـاب المقالــة الأدبيــة؟

المقالة الأدبية، لمن لا يدري؛ هي التي تعبر عن عواطف الإنسان، في أسلوب جميل مؤثر، إذ يستمد الكاتب عناصرها من إحساسه الذاتي، سواء كان هذا الإحساس خاصاً بآماله وآلامه داخلياً أم منتقلاً إلى مشاهد الحياة وانطباعها في نفسه خارجياً، فنفسه هي البئر التي يدلي فيها بدلوه، فيستشرب منها خواطره، وأنفاسه هي التي تتردد في كل سطر، والأسلوب المشرق هو الوعاء الشفاف لهذه الخواطر الإنسانية.
هذه المقالة الأدبية هل اندثرت أو كادت، بسبب إخفائنا مشاعرنا وعواطفنا الآن؟! للأسف، هذه المقالة الأدبية كان يعهدها الناس من قبل، أيام: عباس محمود العقاد، وطه حسين وعبدالقادر المازني والبشري والزيات وزكي نجيب محمود.. وأنا شخصياً كان آخر عهد لي بها على يديّ الراحل الدكتور محمد رجب البيومي، رئيس تحرير مجلة الأزهر، ولكن الآن بات يفتقدها الكبار والصغار على حد سواء، لأنها تمثل بحق طعاماً شهياً يستمرئه القارئ ويستحليه، فلماذا ضاع هذا الفن الجميل؟ وهل أصبح أثراً من آثار هذا الزمن الجميل المنقضي من عمرنا؟
يفسر البعض أن ضياعها بسبب حملها الثقيل، الذي تنوء به من مشاعر الحب، ذلك الشعور الإنساني الذي يخشى البعض الخوض فيه، ظناً منهم أن الحديث عنه يجعل مشاعره عارية أمام الآخرين، وحجتهم في ذلك أن المقالة الأدبية فيها تشريح للمشاعر والعواطف، وتفسير للخوالج، وترصد الخوافي من همسات النفس.
ولا أدري، لماذا العيب وكبار علماء الإسلام من أمثال ابن داود الظاهري، وابن حزم وابن الجوزيّ وغيرهم؛ قد وضعوا كتباً مستقلة في الحب، كتباً لا مقالات. بل إن توفيق الحكيم ومحمود تيمور، من أكبر روائيّ العصر، قد كتبوها بجوار فنهما الروائي الذائع الصيت، لأن استرسال كاتب المقال الأدبي الأصيل في نفض خوالجه، والتفاته إلى الفتات المبعثر من زاد الحياة ليجمعه في طبق شهي، فيقدم للقارئ متعة ترتفع به كثيراً عن واقعه المعيشي، فينسى هموم الحياة إلى مدى، وهي حالة يعرفها القراء حين كانوا يطالعون نفثات ميّ والعقاد وجبران والريحاني ونعيمة والمازني والبشري والزيات، مع انفراد كل منهم بطابع خاص. أما الرافعي بسبحاته الطائرة في كتاب (وحي القلم)، فلن يلحق به لاحق، وقد ظل مكانه خالياً.
نحن الآن، هل احترفنا إخفاء مثل هذه المشاعر من حبّ وغيره، وأصبحنا خبراء في المداراة والمواربة، فاختفت المقالة الأدبية؟!
فها هو عباس محمود العقاد (1889–1964)، الأديب والمفكر والصحفي والشاعر المصري، تعالوا نجول معه، ونسأله:
ماذا عن فلسفته في مثل هذا الحبّ؟
ففي كتابه السيرة الذاتية (أنا)، كتب طاهر الطناحي مقدّم الكتاب، عن العقّاد في مثل هذا الحبّ، قائلاً: (أحَب العقّاد مرتين، صُدِم في الأولى ففارقها كارهاً لها لخداعها وخيانتها، وفارقته الثانية لأنانيتها وكرامتها. ومع ذلك فقد كان يمدح الحب ويقدّسه).
وفي الفصل السادس كتب العقّاد (فلسفتي في الحبّ) فقال في تعريفه للحُبّ بادِئاً: ليس ما في الحبّ أسهل في التعريف مما هو الحبّ، وهكذا الشأن في كل تعريف لمعنى من المعاني أو كائن من الكائنات. فنحن نستطيع في لمحة عين أن نعرف أن زيداً ليس بعمرو، ولكننا لا نستطيع في هذه السهولة أن نذكر تعريف عمرو وزيد، ونحيط بأوصاف هذا أو ذاك، ولو كنّا أعرف العارفين بالاثنين.
وعلى هذا القياس نعرّف الحب من طريق النفي قبل تعريفه من طريق الإيجاب. فليس الحب بالغريزة الجنسية، لأن الغريزة الجنسية تعم الذكور والإناث، ولا يكون الحب بغير تخصيص وتمييز. وليس الحب بالشهوة، لأن الإنسان قد يشتهي ولا يُحِب، وقد يُحِب وتقضي الشهوة على حبه. وليس الحب بالصداقة، لأن الصداقة أقوى ما تكون بين اثنين من جنس واحد، والحب أقوى ما يكون بين اثنين من جنسين مختلفين. وليس بالانتقاء والاختيار، لأن الإنسان قد يُحِب قبل أن يشعر بأنه أحب، وقبل أن يلتفت إلى الانتقاء والاختيار. وليس الحب بالرحمة، لأن المُحِب قد يعذِّب حبيبه عامداً أو غير عامد، وقد يقبل منه العذاب مع الاقتراب، ولا يقبل منه الرحمة مع الفراق.
الحبّ كذلك يعرَّف جزءاً جزءاً قبل أن يُعرَّف كاملاً شاملاًً مستجمعاً لكل ما ينطوي عليه. ويكمل:
ففي الحبّ شيء من العادة، لأن المُحب يهون عليه ترك حبيبه إذا كان تركه لا يغيّر عاداته ومألوفاته، وأقوى ما يكون الحب إذا طال امتزاجه بالعادات والمألوفات. وعن الخداع، قال:
في الحب شيء من الخداع، لأن المرأة الواحدة قد تكون أفضل المخلوقات في عين هذا الرجل، وتكون شيئاً مهملاً لا يستحق الالتفات في عين ذاك، ثم تعود كالشيء المُهمَل في عين الرجل الذي فضّلها من قبل على جميع المخلوقات.
وفي الحب شيء من الأنانية ولو أقدم صاحبه على التضحية، لأنه لا يترك محبوبه لغيره ولو كان في ذلك إسعاده ورضاه، ولكنّه قد يُضحِّي بنفسه إذا اعتقد أن محبوبه لا يصير إلى سواه. وعن الغرور، قال:
والحب أيضاً فيه شيء من الغرور، ولولا ذلك لما اعتقد الإنسان أن إنساناً آخر يهمل الألوف من أمثاله ليخصّه وحده بتفضيله وإيثاره. وقد يخلو الحب من كل شيء إلا من شيء واحد، وهو الاهتمام!
فصدِّق إن قيل لك إن حبيباً يُبغِض حبيبه ويؤذيه، وصدِّق إن قيل لك إن الحب والازدراء يجتمعان، وصدِّق إن قيل لك إن الحب يخون أو يقبل الخيانة من المحبوب، فأما إن قيل لك إن حباً يبقى في النفس بغير اهتمام، فذلك هو المُحال الذي لا يقبل التصديق.
وخلاصة القول: إن الحب عواطف كثيرة وليس بعاطفة واحدة، ومن هنا كان أقوى وأعتى من العواطف التي تواجه النفس على انفراد، ففيه من حنان الأبوة، ومن مودة الصديق، ومن يقظة الساهر، ومن ضلال الحالِم، ومن الصدق والوهم، ومن الأثرة والإيثار، ومن المشيئة والاضطرار، ومن الغرور والهوان، ومن الرجاء والقنوط ومن اللذة والعذاب، ومن البراءة والإثم، ومن الفرد الواحد والزوجين المتقابلين، والمجتمع المتعدّد، والنوع الإنساني الخالد على مدى الأجيال.
ويسألونك عن الحب! قل هو اندفاع جسد إلى جسد، واندفاع روح إلى روح. ويسألونك عن الروح، فماذا تقول؟ قُل هي من أمر ربي، خالق الأرواح، فلهذه الكثرة الزاخرة في عناصر الحب، تكثر العجائب في العلاقات بين المحبين.
فيجمع الحب بين اثنين لا يخطر على البال أنهما يجتمعان، ويتكرر الحب في حياة الإنسان الواحد حتى ليكون المحبوب اليوم على نقيض المحبوب بالأمس في معظم المزايا ومعظم الصفات.
في خاتمة المطاف: هل الحب إذن أمنية نشتهيها؟ أو هو مصيبة نتقيها؟
لي أن أقول إنه مصيبة حين تحمل به نفساً ثانية مع نفسك، وأنت تريدها ولا تريدك، وإنّه أُمنية حين تتعاون النفسان ولا تتخاذلان. وليس بالمصيبة، ولا يكفي فيه أن يُوصَف بالأمنية حين لا عبء ولا تخفيف، بل تنطلق النفسان محمولتين معاً على كاهل (النوع) كله أو على أجنحة الخلود التي تسبح في أنوار عليين.. وما من محبين إلا اتفقت لهما هذه الرحلة السماوية في سهوة من سهوات الأيام.
وها هو جبران خليل جبران (1883-1931)، الشاعر والكاتب والرسام اللبناني، وهو أحد أدباء وشعراء المهجر؛ يتحدث الدكتور جميل جبر، في مقدمة كتابه الشهير (الأجنحة المتكسّرة)، عن الحب عند (جبران) فيقول:
(الحب في نظره مصدر السعادة والنور، هو الخبز المقدّس الذي يُغذّي الروح ويحرِّر ويرفع، فلا يجوز بالتالي أن يُقيَّد، هو أقوى من الشرائع وأقوى حتى من الموت لأنّه سر الحياة المتجددة عبر تناسخ الأرواح).
عقد الزواج الذي سنّه البشر لا قيمة له بالنسبة إلى تعاقد قلبين حسب سنة الطبيعة. الحب يهب أجنحة تطير بالعاشقين إلى ما وراء الغيوم ليروا العالم السحري. ثم يقول في موضع آخر:
ويتخذ الحب الجبراني بُعداً ميتافيزقياً، (إنّه قدر، تدبير سماوي، المحبة الحقيقية). وجبران يخلط بين المحبة والحب: (هي ابنة التفاهم الروحي، وإن لم يتم هذا التفاهم بلحظة واحدة لا يتم بعامل كامل ولا بجيل كامل، لأن الحبيبين كانا واحداً في الله ثم انفصلا، فسعى كل شطر منهما إلى الآخر إلى أن يتوحّدا ويتكاملا). إنها نظرية التوأمين في الحبّ، وقد عبّر عنها جبران بقوله: (كأن الآلهة قد جعلت كل واحد منّا نصفاً للآخر يلتصق به بالظهر فيصير إنساناً كاملاً، وينفصل عنه فيشعر بنقص موجع في روحه). ويتبع قائلاً:
(في الميثولوجيا اليونانية، كما في مذهب الإشراق: إن العاشقين متَّحدان أصلاً في الله، ثم يفترقان بعد الولادة ثم يجمعهما الحبّ من جديد، فيُعيد إليهما وحدتهما الأساسية).
وها أنا أقول لكم إنَّه (بالحب، تستقيم حياتنا، لماذا؟)
لأن كل شيء يكبر وينهض وينمو ويترعرع ويتآلف بالحب.
وكلّ شيء يفشل ويتراجع وينزوي ويذبل ويموت بالكراهية.
فالحب.. هو الحياة، لذا سيتواصل الحديث عن الحب بين الناس، ما دامت الحياة باقية ومستمرَّة، لأنَّه لا حياة بغير قلوب محبَّة. تفيض عطاءً وحباً على نفسها والآخرين، إذ إنَّ الحب هو الغيث الذي يروي عمر الإنسان فيصبح بستاناً نضراً.
أمَّا الكراهية، إن أطلق الإنسان زمامها في نفسه، بعيداً عن مكانها المشروع والمباح، انفلت عيارها وتطاير شررها واستعرت نيرانها لتحرق الأخضر واليابس. لذا، فإنَّ انضباط مشاعر الحب والكراهية فيه الخير كل الخير للجميع.
ومن هنا، سيظل هذا الحب وهذه الكراهية، هي المشاعر الأهم في الحياة، ويصح لنا القول: إنَّ الحب والكراهية يحكمان مشاعر الإنسان وشكل حياته، إذ إنَّ الإنسان منَّا ليس مجرَّد عقل وإرادة، بل هو أيضاً: مشاعر وعواطف ووجدان ونفس وروح.
والحبّ يا صديقي ما هو إلا حالة نفسية وعاطفية تنبع من أعماق ذلك الإنسان منَّا، إنَّها حالة رائعة تمنحنا زمام السعادة وسبل تحقيقها وفضائل الرضا وثمراته، والحب أيضاً هو: رابطة روحية وإحساس نفسي وشعور وجداني رائع، يعيش في أعماق النفس البشرية، الساكنة بين جوانحنا، فنتألَّق في العنان، فهل ضاعت منَّا هذا المشاعر، واختفت مع اختفاء المقالة الأدبية؟!
فيا أحبَّتي، إنَّه نظراً لأهمية الحب وقيمته في سعادة الفرد والأسرة والمجتمع والأمة، فقد اعتبره ديننا الإسلامي قيمةً عليا وهدفاً سامياً لا بد من تحقيقه، فتجده يسعى بشتى الوسائل لإيجاده وإشاعته في المجتمع وبناء الحياة على أساسه. لذا، نعرف قيمة الحب في الإسلام، عندما يُعرِّف الإسلام نفسه بأنه الحب، وبأن الحبّ، هو: الإسلام.
أمَّا الكراهية، فهي مجموعة من المشاعر والأحاسيس المتناقضة، والمختلفة والمتنافرة مع الحب، لأسباب تتعارض مع رغبات وأمنيات ومصالح الأشخاص، تجاه مصالح الآخرين.
ونظراً لأهميَّة هذا الحب في الحياة وخطر الكراهية على البشر، فإنَّ جميع الأديان قد اعتمدت على الحب والكراهية، نظراً لتأثيرهما في ترسيخ القناعات وبناء اتجاهات الأفراد، وتحقيق الأهداف الخاصة بكل دين لازدهار هذه الحياة. كما أنَّ المؤسسات التربوية توظِّف الحب والكراهية في بناء الاتجاهات والقيم والقناعات الفكرية وانعكاساتها السلوكية على البشر، للوصول إلى الهدف الأسمي بازدهار الحياة وإخراج الإنسان الصالح المتوازن، فكرياً ونفسياً وسلوكياً، الذي يؤدي رسالة ربِّه بتقواه وعمارة هذه الأرض.
بل إنَّ هناك شيئاً مهماً للغاية، ألا وهو أنَّ تفعيل طاقات البشر والشباب والعاملين في كل مجالات الحياة، ووضعها على الطريق المستقيم الذي يحقِّق الأهداف التي يتمنَّاها كل فرد، لا يتم مطلقاً إلا من خلال إشاعة مناخات من المودة والحب بينهم في الحياة، وذلك لاستخراج قدراتهم الفكرية والإبداعية، وأداء عملهم بأقصى درجات النشاط. وهو الأمر الذي يجعلنا نواصل الدعوة إلى نبذ الكراهية فوراً والبدء بالحب، لنكون بشراً مخلصين نبني الأحلام ونُحقق النجاح ونبلغ السعادة في الحياة، وذلك من أوسع الأبواب المشروعة في الدين والأخلاق والحياة، وهو: الحب.

ذو صلة