مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

إصلاح الحداثة.. مقاربــة بين طــه عبدالرحمن ووائـل حلاق

استعمل المفكر المغربي الدكتور طه عبدالرحمن تسمية الحداثة الإسلامية بلا ممانعة ولا محاذير، مقدماً نظرية جمعت بين الحداثة والإسلام في تركيب ثنائي متحد لا فصل فيه ولا قطع، أقامها على أساس قاعدة التفريق بين روح الحداثة وواقع الحداثة، أبان عنها وشرحها في كتابه: (روح الحداثة.. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية)، الصادر سنة 2006م. في المقابل تحفظ المفكر الفلسطيني الدكتور وائل حلاق على تسمية الحداثة الإسلامية، قائلاً بالالتحام بين روح الحداثة وواقعها، مقدماً رأياً نقدياً، أبان عنه وشرحه في كتابه: (إصلاح الحداثة.. الأخلاق والإنسان الجديد في فلسفة طه عبدالرحمن) الصادر سنة 2019م.
تأسيساً لنظريته اتجه الدكتور طه إلى ناحية الواقع، مرتضياً أن الحداثة هي عبارة عن إمكانات متعددة، وليست كما رسخ في الأذهان إمكاناً واحداً، دالاً على ذلك بأن المشهد الحداثي الغربي ليس بالتجانس المظنون، بل فيه من التنوع ما يجوز معه الكلام عن حداثات كثيرة لا عن حداثة واحدة، مقدراً على وجه العموم جواز أن يكون للحداثة أشكالاً تختلف باختلاف التاريخ والمصير، ساعياً نحو إثبات دعوة قررها قائلاً: (كما أن هناك حداثة غير إسلامية، فكذلك ينبغي أن تكون هناك حداثة إسلامية).
وتتمة لنظريته، ارتكز الدكتور طه في ناحية الروح، على ما تقرر في الأذهان بأن الحداثة تأتي بالمنافع والخيرات التي تصلح بها البشرية وتتحقق في الأعيان، ثم لا يكون هذا الجزء النافع منها متضمناً في الحقيقة الإسلامية، مقدراً أن الزمن الإسلامي هو بمنزلة الزمن الأخلاقي الذي تتحقق فيه ظاهرة الحداثة، كونه يتمم ما نقص في سابق الأزمان من المكارم، ومن ثم فلا بد في نظره أن تدخل الحداثة الصالحة في الممارسة الإسلامية.
وبياناً لهذا التفريق بين روح الحداثة وواقع الحداثة، رأى الدكتور طه أن روح الحداثة هي جملة القيم والمبادئ القادرة على النهوض بالوجود الحضاري للإنسان في أي زمان وأي مكان. أما واقع الحداثة فيرى أنه تحقق هذه القيم والمبادئ في زمان مخصوص ومكان مخصوص، ومن ثم فإن هذه التحققات سوف تختلف باختلاف الظروف الزمانية والمكانية، معتبراً أن أشهر تحقق لروح الحداثة تمثل في الواقع الحداثي الغربي.
هذه النظرية توقف عندها الدكتور حلاق مناقشاً لها، ومختلفاً معها، ومبتعداً عنها، ومتحفظاً عليها، سالباً منها حس الدهشة، مقراً بإشكاليتها، ناظراً إلى أن هذا التمييز بين روح الحداثة وواقعها مع إشكاليته ليس جديداً في بعد معين، وعدها أكثر إشكالية من ناحية اعتبار أن جذور روح الحداثة ليست نتاجاً للمجتمع الغربي فقط، مع اعتقاده أن جذور الحداثة البعيدة ليست أوروبية حصراً، مؤكداً أن هذ الطرح في نهاية المطاف ليس جديداً.
وتتابعاً لمناقشته، سجل الدكتور حلاق اختلافاً من جهة القول بعالمية روح الحداثة وكونها من صنع كل المجتمعات الإنسانية، وعدها ملكاً لها، بعيداً عن اعتبارها تتعلق بنشر القيم الأوروبية الحداثية في أنحاء العالم بكل الطرق الممكنة، مضيفاً على سبيل الاحتمال أن يكون في هذا القول تعويلاً على مفهوم الروح الكانطي، بناء على اعتقاد أن مسلمي اليوم يعانون في مواجهة الهيمنة الأوروبية، من الأغلال نفسها التي عانى منها الأوروبيون على يد كنيستهم وملوكهم، معتبراً أن هذا الروح لا يمكن تعميمه لا مكانياً ولا تاريخياً، ولا يصلح تطبيقه على المجال الإسلامي، لكون أن علاقة المسلمين بماضيهم مختلفة اختلافاً جذرياً عن علاقة الأوروبيين بماضيهم.
وقد تعجب الدكتور حلاق أن لا تشتمل المبادئ العالمية لروح الحداثة عند صاحبه، على عنصر الأخلاق لا بطريقة مستقلة ولا بطريقة فرعية، مع أنه يعد الأخلاق حجر زاوية التصور المثالي للحداثة، مصوراً أن هذا الأمر يظل محيراً حتى مع افتراض أن العنصر الأخلاقي ينتمي حصراً إلى أشكال الحداثة الإسلامية وتطبيقاتها.
أمام هذه النظرية بشأن الحداثة الإسلامية لدى طه عبدالرحمن، متبوعاً بالمناقشة النقدية لدى وائل حلاق، وبعد الفحص والنظر يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
أولاً: مثلت نظرية الدكتور طه عبدالرحمن واحدة من أهم المحاولات الاجتهادية في المجال العربي الإسلامي، فقد جاءت ورفعت تلك المخاوف الثقيلة والمتراكمة تجاه العلاقة بين الإسلام والحداثة، وفتحت الطريق نحو بناء حداثة مغايرة ومستقلة، وبرهنت على إمكانية تأسيس حداثة إسلامية أو تكوين نظرية في الحداثة الإسلامية، وشكلت خطوة متقدمة في هذا النطاق على مستوى النظر من جهة، وعلى مستوى العمل من جهة أخرى.
هذه الخطوة الاجتهادية المتقدمة، لم يتواصل معها الدكتور حلاق ويواكبها ويصعد بها نقاشاً ونقداً وتناظراً، وإنما انقطع عنها، وجاءت خطوته متراجعة إلى الوراء، بدل أن يكون متمماً لها، ومنطلقاً منها، وبانياً عليها، بعد فارق زمني يمتد إلى ما يقارب عقد ونصف العقد، واقفاً عند الوضعية القديمة، متمثلاً ذهنية القراءة الأولى التي تعاملت مع الحداثة بمنطق الشك والرفض والارتياب. وهي القراءة التي تجاوزها الدكتور طه متخطياً وضعيتها، ومتعدياً بعدها وضعية القراءة الثانية التي وقفت عند حدود التقارن بين الإسلام والحداثة وقبول هذا التجاور، مرتقياً إلى وضعية القراءة الثالثة متجهاً نحو تأسيس حداثة إسلامية.
ثانياً: أقام الدكتور طه نظريته منطلقاً من فكرة أن الحداثة في تمثلاتها الخارجية هي حداثات متعددة وليست حداثة واحدة متحدة وممتنعة عن التعدد والتنوع، قاصداً فك الارتباط الفكري والتاريخي بين الغرب والحداثة، فاصلاً بينهما، فلا الغرب هو الحداثة بالتطابق التام والمطلق، ولا الحداثة هي الغرب بالتطابق التام والمطلق، وإنما هو يمثل صورة من صورها هي الأشهر تحققاً في العصر الحديث، بل وفي داخله من التنوع ما يجوز معه الكلام عن حداثات كثيرة لا حداثة واحدة، فهناك من ناحية الأقطار ما يمكن الكلام عن حداثة فرنسية وحداثة ألمانية وحداثة أمريكية، وهكذا من النواحي والاعتبارات الأخرى.
في المقابل أقام الدكتور حلاق نقده منطلقاً من فكرة أن الحداثة هي حداثة واحدة، كانت وما زالت وليست حداثات متعددة، دامجاً بين الغرب والحداثة بلا فصل ولا قطع، مقدراً أن الحداثة هي صناعة غربية نشأة وتكويناً، بقاء وديمومة، لذا فإن التمييز بين بنية الفكر أو مبادئ الحداثة، ونهج أوروبا العملي والفعلي بوصفه كياناً كولونيالياً أو ما يطلق عليه تطبيق مبادئ الحداثة، هذا التمييز عده حلاق بمثابة عدم انتباه لطبيعة العلاقة العضوية بين الظاهرتين، وتدخل في نظره تحت عباءة الأسطورة الأيديولوجية التي دعمها التشويه الأوروبي لما يطلق عليه قيم عصر التنوير النبيلة.
ضمن هذا السياق من النقاش النقدي، لا بد من الالتفات إلى أن العالم بدأ يتحول من الحديث عن حداثة أحادية إلى حداثات متعددة، حدث ذلك نتيجة تراجع الحداثة الغربية من جهة، وصعود الحداثات المغايرة من جهة أخرى. فلم تعد الحداثة الغربية بذلك الوهج والافتتان الساحر الذي كانت عليه من قبل، ليس في نظر المجتمعات الأخرى فحسب، بل حتى في داخل المجتمعات الغربية نفسها، فقد بدأت الأصوات هناك ترتفع متسائلة عن فكرة الحداثات المتعددة.
كما أن المجتمعات التي تنتمي إلى الحضارات العريقة مثل اليابان والهند والصين، لم تعد تقنع بحداثة الغرب ولا بحداثة غيره، متمسكة بحداثاتها الذاتية المغايرة. وهذا هو الدرب الذي ستصل إليه المجتمعات الإسلامية متى ما تلمست طريق اليقظة والنهوض. وليس بعيداً عن هذا المنحى ما توصل إليه المؤرخ اللبناني الدكتور خالد زيادة الذي رأى أن أوروبا لم يعد لها ما تقدمه للعرب. لذا فإن نظرية الدكتور طه أكثر اتفاقاً مع هذا المنحى وتناغماً من رؤية الدكتور حلاق.
ثالثاً: تعد نظرية الدكتور طه أكثر ثقة وجرأة وإرادة من رؤية الدكتور حلاق التي يظهر عليها الحذر والخشية والارتياب، ويتجلى في الرؤية الأولى حس الإبداع، ونزعة الاستقلال، والرغبة في التحرر من أصنام التبعية والتقليد، بخلاف الرؤية الثانية التي تكاد تقف في مكانها، ويغلب عليها حالة السكون، والتمسك بالموقف الدفاعي، والرغبة في الممانعة والمفاضلة.
رابعاً: أسهم الدكتور حلاق بنقاشه النقدي في لفت الانتباه من جديد لنظرية الدكتور طه، وفي تسليط الضوء عليها، وتحريكها من مكانها التي كانت عليه لفترة غير قصيرة، والزج بها في المعترك النقدي. فهذه النظرية على جديتها الاجتهادية لم تأخذ حقها من النقاش النقدي المفترض، مع ندرة النظريات في هذا الشأن، وحيوية الموضوع الذي تتصل به، فكل نظرية بحاجة إلى نقد عقلاني لإنضاجها وتسديدها وترشيدها وتكميلها.
خامساً: كانت لي نظرية في هذا الشأن أقمتها على ركنين أساسيين، الأول له علاقة بمفهوم الحداثة، والثاني له علاقة بمفهوم الاجتهاد. في الركن الأول رأيت أن مفهوم الحداثة الذي ابتكره الغرب لغوياً ولسانياً، قد عبرت عنه روحاً وجوهراً جميع التجارب الحضارية التي مرت على التاريخ الإنساني قديماً وحديثاً، فجميع هذه التجارب الحضارية الكبرى هي تجارب حداثية. وفي الركن الثاني رأيت أن الاجتهاد هو المفهوم الإسلامي المعبر عن تجربة المسلمين الحضارية، والذي يقارب مفهوم الحداثة المعبر عن تجربة الغرب الحضارية. وفي وقت لاحق قمت بتطوير هذه النظرية، وتوصلت إلى أن الاجتهاد في المجال الإسلامي هو المفهوم الذي يعادل أو بإمكانه أن يعادل مفهوم الحداثة في المجال الغربي، وذلك استناداً إلى قاعدة جوهرية صلبة، ترى أن مفهوم الحداثة يتكون من ثلاثة عناصر أساسية هي: العقل والعلم والزمن، وهذه العناصر الثلاثة بتمامها هي من مكونات مفهوم الاجتهاد.

ذو صلة