مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

لا أحد يحدث جلبة

انتصف الليل وأنا منزوٍ بجانب الشرفة على مقعدي الخشبي، أنظر إلى مكتبي القديم المتناثرة عليه صفحات من الورق لاحصر لها.
أخذتني خطوات قدميّ إلى ممر طويل أمر به قاطعاً الطريق إلى الغرف القديمة بالمنزل. ووسط زحام الذكريات ارتطمت بمرآة كبيرة معلقة بيمين الممر، هزت كل ما في رأسي من ذكريات كورق الخريف، نظرت إلى وجهي فى المرآة، اقتربت أكثر لتكبّر كل ما بداخلي حتى أراني بوضوح.
نظرت بتمعن إلى وجهي
نعم وجهي
ولكني لست أنا!
بحثت في جوانب المرآة
فتيقنت أني غير موجود!
بدأت ألملم شتات ملامحي من الجدارية الزجاجية..
تلاشى أيضاً فضولي أن أذهب إلى الغرف القديمة بالمنزل..
فقررت الرجوع عائداً إلى غرفة المكتب. بدأ التثاؤب يلح علي لكني ظللت أقاوم حتى أفرغ من قراءة القضية، قلبت ورق القضية سريعاً، وجدتها قضية جريمة كبيرة تمت في المدينة منذ عام مضى، وحان الحكم النهائي فيها.
محاولة غفوة غادرة تجتاح جفوني، لكنها قُطعت قبل أن تكتمل نشوة النعاس، وَثَبَتْ القطةُ على المكتب، أسقطت اللافتة الخشبية المدون عليها اسمى (القاضى ميزار)، جعلتني أعاود استعادة اليقظة من جديد، فهذا كل ما تبقى مني: قطعة خشبية،
شعرت بحاجة ملحة لتناول مشروب ساخن يحسن من يقظتىي حتى أنتهي من قراءة تفاصيل القضية.
دخلت المطبخ لأعد كوباً من القهوة، وجدت المطبخ كالعادة غارقاً بالأواني غير النظيفة، لعنت الوحدة والخادمة التي تأتي في مواعيد غير منتظمة، وتترك المنزل هكذا!
أعددت القهوة، وجريت هارباً من غوغاء الأواني في المطبخ.
مررت بالردهة الكبيرة المؤدية إلى مكتبي أنظر إلى صور عائلتي، وهي مصطفة على الجدران تعلوها الأتربة.
وبين نظراتهم سمة العتاب القاتل
طأطأت رأسي في الأرض
فلم أعد أحتمل نظرات العتاب منهم
لقد فشلت رغم مهنتي أن أعرف القاتل.
أدرت ظهري عن صورهم، فلم أعد أحتمل حتى المرور من هذه الردهة المؤدية إلى مكتبي كل ليلة.
كانت قدمي تتثاقل في المشي حتى وصلت إلى المقعد، وضعت فنجان القهوة على المكتب، ووضعت جسمي المتثاقل بحجم لوح الثلج على المقعد، رفعت رأسي أحملق فى جدار المكان، وجدت بعض خيوط العنكبوت بدأت تظهر على جوانبه، كانت الجدران موحشة بعد رحيل جميع عائلتي من المنزل.
ركزت بحدقتي على الحائط أمامي، تحول الحائط لشاشة عرض كبيرة تبث لحظات الحادثة كأنها اليوم.
سنوات طويلة مرت ولا يزال هذا اليوم الأليم عالقاً في ذاكرتي.
لم أتوقع أن وظيفتي ستكون سبب رحيل جميع عائلتي.
الساعة الثالثة عصراً، توقيت يظهر على الشاشة بقوة، يمر أمامي، لن أنسى هذا التوقيت.
كان يوماً مرهقاً، فقد عدت متأخراً للمنزل، بعد مرافعة طويلة، أصدرت فيها حكم الإعدام على قاتل عتيد ومغتصب طفلة.
اندهشت وقتها، لم أجد معاناة في الانتظار حتى يفتح لي باب المنزل، وجدته مفتوحاً على مصرعيه!
المنزل كان يعم فيه صمت غير مألوف!
أين صوت طفلتي راما؟ وأين اختفى صوت ابني ساري المزعج؟
وأين صوت الملاعق والأطباق التي تخرج من المطبخ في هذا التوقيت دائماً!
ظننت أنهم خرجوا إلى التنزه.. ربما!
استرعى انتباهي أن البيت غير مرتب، كأنما دارت به معركة طاحنة!
قطعت كل الظنون، ودخلت مباشرة أبحث في المطبخ، لم أجد زوجتي!
لعلها نائمة!
جذب انتباهي صوت ضعيف أوحى لي أن شخصاً ما يستنجد، دخلت مسرعاً ناحية غرف نوم أطفالي، تسمرت أرجلي بالأرض، فلم أستطع التقدم خطوة واحدة إلى الغرفة، لم أعرف صوت المستغيث من كمية الدماء المختلطة بأجسادهم، ولم أحدد من على قيد الحياة ومن فارقها، فجميعهم مصابون بطعنات سكين قاتلة.
فقط صوت زوجتي لارا تتألم بشدة، ولم تستطع النطق بكلمة واحدة غير همهمات غير مفهومة، لم أشعر بيدي وهي تطلب النجدة فوراً، وجدت النجدة داخل المنزل ومعها الشرطة بسرعة.
أخذوا يقلبون أجساد أسرتي، وجدوا أن الوقت قد فات لإنقاذهم.
لم أصدق وقتها ما حدث، فقط شعرت أنه مجرد كابوس عابر فى ليلة ما.
احتضنني الشرطي صديقي بقوة: اعتنِ بنفسك يا سيدى، فلن نترك القاتل يهرب من سيف العدالة.
هكذا رحلوا جميعاً في هذا اليوم الأليم، متواعدين جميعاً على الرحيل، ولم يبقَ ما يؤنس وحدتي سوى القطة.
فجأة أغلقت شاشة العرض المؤلمة أمامي، حتى لا تقتلني الذكريات المؤلمة، عاد الحائط بلونه الطبيعى كأن العرض انتهى، أسندت رأسي على أطراف المقعد.
قمت واقفاً، على أن أعود لأتفحص باقي أوراق القضية.
عدد أوراق القضية لم يبعث لي رسالة مطمئنة، إنها قضية عادية، لكن ما علي إلا قراءتها مراراً!
عيناي بدأت تتثاقل، فلا جدوى من مقاومة النوم، حتى يأخذ عقلي هدنة من التفكير في القضية.
دخلت حجرتي لأستسلم للنوم، فلا أملك مزيداً من المقاومة، مددت جسدي على السرير، وتاه وعيي إلى رحلة الموت الصغير.
الأصوات تعلو بجانب صوان أذني، إنه الكابوس المزعج المعتاد كل ليلة..
جرس الباب كان يلح فى الإنذار، من هذا الذي سيأتي إلي مبكراً هكذا؟
ترددت أن أفتح ولكني تذكرت ميعاد الخادمة، فتحت الباب، وجدتها هي بالفعل.
أول ما فعلته نهرتها على عدم انتظام مواعيدها في التنظيف، لكن لم أجد رد فعل على وجهها كالعادة.
تصرفات الصمّ محيّرة!
أشرت لها إلى المطبخ لتبدأ التنظيف وتحضر لي كوباً من القهوة إلى مكتبي.
بعد ساعات مملة جاءت بخطوات متلكئة إلى غرفة المكتب، تحمل كوباً من الشاي!
ووضعته أمامي، وابتسمت ابتسامتها البلهاء!
سألت نفسي سؤالاً منطقياً: لماذا أحتفظ بهذه الخادمة الغبية طوال هذه السنوات؟
لكني تذكرت حب زوجتي الراحلة الشديد لها، فهي أصبحت جزءاً من ركام ماضٍ حاضر بلا صوت!
أشرت لها أن تتصرف لتكمل التنظيف، وإعداد الطعام.
الوقت يداهمني، ولم أضع مسودة أخيرة للقضية.
بعد شتات ذهني هنا وهناك!
لكنها ظلت في مكانها تحملق في!
وبعدها اتجهت بسرعة تدير زر الهاتف،من فضلك دكتور.. حالة زوجى غير مطمئنة اليوم، فما يزال يقوم بتقمص دور القاضي ميزار الذي قتل العام الماضي في الشقة المقابلة لنا، ولم أجد الدواء الجديد الذي كتبته له الأسبوع الماضي، من فضلك اكتب له دواء بديلاً آخر.
اقتربت منها بعد انتهاء المكالمة وقلت بتعجب من أنت؟ ومن هو القاضي ميزار؟ فأمسكت بذراعي وأدخلتني الحجرة، وطلبت منى أن أستريح حتى يأتي الدواء.

ذو صلة