مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

ليلة طويلة

سيسيح فيها خيالي للحظات من الخوالي، عميقة الذكريات والحنين، أيام الغيث الوفير والأقران الصغار.. نجتمع في باحة المنزل الكبير، نتجول بين أشجار الزيتون، نقطف الرمان ونطارد الفراشات الملونة الكبيرة، نلتقط تمرة النبق ونأنس بحديث بعضنا البعض، نسهر ليلاً على حكايات الجدة ولا نستيقظ إلا على قهوتها وخبزها الذي عجنته فجراً.
لم نأبه للكبر ولا متى سيغزو أرواحنا شيئاً فشيئاً ليغيرها، ولا أن الشيب الذي أنكرناه سيصبح حملاً مألوفاً لدينا، ولا أن صوتنا سيختلف أو تتغير معه ملامحنا وأماكننا.. نلتقي نادراً وتكون كأنها لقيا حديثة.. المنزل الكبير كان يضمنا بدفءٍ سامر ونخوة شماء، يفترش لنا من حضنه ودفء القبيلة.. نفحاته عظيمة وزخرفاته بديعة.
الليالي حينها كانت قصيرة وسريعة رغم طولها، تغص بالضحكات، السرور، وحكايات الخالات والجدة.. الليل فيها يتقمص النهار، فيوقد أفراد العائلة ناراً في وقت متأخر من السمر، ويستفسر كل واحد عن أحوال الآخر وأبنائه أو بناته، تتعدد الأسماء وتتنافس الفتيات في الانتقاء وضرب المعاني والأمثال حسب كل اسم. تسري الوشائج فينا بنهم البقاء على ما نحن عليه، لم نكن نتداول الكبر بيننا، كان منعدماً تماماً، لأننا وبيقين الصغر لا نكبر أبداً.
أعود بعد عام أو عامين، لأبحث عن أنس خال يرتج منه صوت أبي أو تكاد أمي تغالب فيه صباها.. لكن رويداً رويداً يزداد التغيير، وتتسع فجوة ملامح الصغار وتغالب أسوار القرية عجزها عن مقاومة الزمن.
كان زمناً يمتح من شوق ولذة الذكرى.. دون طريق سيار سريع، نتكدس في الحافلات القديمة بإنزكان، تمتزج بحالنا وهي تمخر عباب جبال الأطلس لتصل ليلاً مفترق الصهريج ودمنات. أبي حينها كان لتوه قد جمع اليسير مما يكفي لعطلة واحدة في عام أو عامين. نزور قدر ما نستطيع من أطراف القبيلة المنتشرة بين مداشر أولاد شعيب. كل زيارة بمثابة حول من الذكريات وفرصة سانحة لالتقاط أكبر عدد ممكن من الأخبار لنتداولها عاماً آخر حين العودة.
تزداد شجرة القبيلة وفرة ويكثر الأبناء والأحفاد.. يتفرقون ويسيحون في الأرض ثم تقرر بعض الأوراق الخضراء السقوط دون موعد مسبق.. كل سقوط كان مناسبة للم الشمل واللقاء من جديد، لقاء يجذب أي بعيد أينما كان، يحرك فيه من حنين الصغر لتذكر ابتسامات الماضي واستشفاف ما اعتراها من تغيير أو وأد أو نجاح لأحلامها.
يقرر أبي أولاً الترجل عن حصانه ونزع رداء الحاضر والاكتفاء بما مضى، ثم جدتي لأمي بعد دهر من البهاء والأنس ثم جدي، ثم خالي ثم خالي.. يمر وقت عصيب لنتناسى بلحظات الألفة اجتياح الآتي.. فنكون كأننا نتجاهل أو نخادع.. أرافق حينها وكل مرة أمي لتنتحب مع أشجار القرية كعادتها وتسقيها سقيا أمل وألم. فأنتحب بصمتي معها أيضاً مكتفياً بالرسم على الماء وعض اللسان أو النظر للسماء طويلاً.. أكون في سفري هذا معها معلقاً جامداً طويل التفكير، كثير الصمت والتأمل، كأني في لحظتها أحاكي ما بعد المستقبل، أرفضه وأنكر الحاضر. أخشى على الماضي وأشغف به.
تحمل كل ورقة من الأوراق المتساقطة نقوشاً من أثر حنين لا يزال أبداً، يتكرر السقوط فأستيقظ من غفوتي شاحب التفكير إلى النظر في الأبد، أكون ميتاً وأنا أفكر تارة وأخرى راغباً في السفر بلذاته إلى اكتشاف الغابر من الآتي ولعله معه الماضي أيضاً.. لو يكرر بحذافيره سيكون شبيهاً بسكرات ولذات ما كان أيضاً.
أعود مراراً في نفس الليلة لأكرر تجربة الاحتضار أيضاً، ألوك كل الأفكار في مداي وأستسلم للتعب أخيراً.. تنهمر ليلتي علي وتغشاني ببرودتها فتطول وتطول.
ممداً شارد الذهن، مرتبك الأحاسيس، أحاول فك شفرات الجسد قربي. لم تعد تعتريه أية حركة، لا أفكار ولا مواعيد.. بقي لي منه خيال حركة كانت هنا وهناك، وأخرى اقترضتها منه ذات فرح، مشتتة على قلوب عديدة، لن تعود الآن. لا أحد بوسعه تقمصها أو حتى تقليدها.
أحاول تشكيل متلاشيات وجوده في ذاكرتي العميقة حتى تظل لأبعد مدى وأعود لتلك الذكريات متى ما احتاجت نفسي لتجرب اللاشيء والاندثار.
هذا العام عام التلاشي، فكم صارت فيه أجساد بلا معنى، وقررت الأرواح التي سكنتها مفارقتها للعبء الثقيل الذي ما فتئت تئن تحت وطأته، بسبب اللامعنى نفسه.
تطول هذه الليلة، يشرد ذهني، تتغير رائحة استنشاقه للهواء من حوله، يعيد بناء حطامه، رص خرابه، انبعاثه من جديد لغير أهمية، كأنه ينتمي الآن في هذه اللحظات لحياة أخرى، أو قد قرر تجربة العيش فيها، مسجوناً داخل ماهيته، على الأقل، كاللحظات الأخيرة لهذا الجسد المنهار أمامي.. واقع الحال يصدمنا، لا يمكننا أن نصبح أجساداً دون تفكير ميت وانهيار في التأمل.
تتفتق رؤيتي عن ضباب فضاء مموسق عازف بما يكتنف هذه الغرفة الضيقة والمزدحمة، كحمام بلدي عمقه عذاب غير مرئي وآخره تيه وضلال. الوجود صار كلاوجود والتكرار لا يصنع إلا المتاهة.
الأصوات محتاجة للتأويل أكثر من غيرها من الباقين الجاثمين عن الحركة والانفعال. الصرخات تعبير عن الخلاص أيضاً أو التخلص بمعنى مغاير.
هذا الجسد الدفتر ناعم الأوراق، جميل الخط، بديع التشكيل، يستحق أن يعيش بعد هذه اللحظات، يستحق ألف سؤال لينجب لنا مما تبقى ما يسكن تضورنا من أجله، حتى نحقق الإنصاف في شموليته. ودون ذلك فإننا نكرس الحيف ونكرر النسيان ونؤكده. أنهينا طمر الحقيقة بالتراب، وعدنا خائبي المنظر، منكسرين ومحطمي الإرادة.. ونحن منهمكون في الطمر، كنا نحس بجميع ذنوب الماضي وارتيابنا في مساحاته.
نكاد نخرج الآن من دائرة الجمود إلى الحركة، فيأتي اليأس إلينا حاملاً معه قبساً ضئيلاً من الأمل الذي صنعناه في الصغر، فنبدأ من هذه اللحظة إدراك سبب مجيئنا لهذا المكان المهجور.. يسخر منا هذا اليأس وأمله بعدما أثخنا في عذابنا وننكس نحن رؤوسنا اعترافاً بجبروتهما علينا.
أصيح بسكوني ليسمعني الفضاء دون من هم حولي، ولا يهمني أن يدركوا معناه ولا امتداده.. أدرك أن الجذور التي سبقتنا لهذه الغابة تختزن الكثير، لهذا فضلت عدم الحركة.. آثرت الجمود حتى لو استمر قروناً.. المهم أن ماضيها كان له نهاية قبل بدايته.
تبدأ حفلة الشاي تتلوها أصوات من المتاهات وأحاديث كثيرة أستغرب من انبعاثها في هذه اللحظة بالذات!
أحافظ دونهم على نفسي ولا أختلط بهم.. ليلتي كانت لتكون طويلة ولن أقتطع منها ولا أن أبدلها بالصبح الذي يرجو الاقتراب أكثر ليقضي عليها.
ليلتي تغرس في روحي من أشواك الحقيقة ما يوقظ كل ذراتي لآخر نظرة وآخر شهقة.

ذو صلة