مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

أهازيج الحناء

واحنّاي!!
صرخْتُ.. كما صرَخَتْ هي ذات يوم، ثم شقّت حنجرتها شهقة موجوعة تشبه غصة ناي كسير تقتحم ثقوبه أنفاس ريح هائجة، ضربت صدرها بشمالها، ومدت يمينها تتحسس بها آثار الجديلتين التي لم يبقَ منها سوى جذوعها، أردفت بشهقة أخرى، وأدارت عنقي في كل اتجاه، أدخلت أصابعها في لمة شعري الكثيف كأنما تبحث عنهما، ثم أخرجتها ونظرت إليّ مذهولة وصاحت: إنا لله.. راحت الجدايل! ضاع الحناء.. وتعب السنين!
لم أدرِ ماذا أقول! ظلت تتحسس عروق ظفائري المجزوزة في نفس المكان الذي تجلسني فيه ظهيرة كل أربعاء حين أعود من المدرسة، بعد أن تلبسني ثوباً قاتم اللون، وتضع تحتي حصيراً عتيقاً، تتربع خلف ظهري مستندة على الحائط، تحلّ ظفائري، تقسم شعري بمشط خشبي قديم، ثم تغمس يدها في (طاسة الحنا) الذي خمرته منذ الفجر مع قشور الليمون والزبادي، وأشياء أخرى تتفنن في اختراعها، وتبدأ بتلبيده بين منابت شعري، تقوم بذلك كما يقوم بنّاء ماهر بدهن خلطة الإسمنت داخل شقوق الحائط الغائرة، تحدثني عن (يزيد بن خالد) ومعشوقته، و(نمر بن عدوان) وظفائر زوجته (أم عقاب).. وأسماء كثيرة لا أذكرها، أنصت لأصوات العصافير المحلقة فوقي ما بين النخلة وشجيرات السدر والأترج. أتأفف، فتشعر بمللي، وتحول وجهة الحديث إلى ضفة أكثر إغراء: غداً حين تكبرين، (وتجلس ظفائرك معك حين تجلسين) يتطلع الجميع إليك وكأنك عروس تركب الهودج.
أسألها باستغراب: هوجد!!
تصحح لي: هودج ..هودج، الصندوق الذي كانوا يحملون بداخله العروس على ظهر الجمل..
تنجح في استدراجي إلى حوارها.. حيث أطحن حبات الملل في رحى الأسئلة:
- وكيف تركبه العروس وهو على ظهر الجمل؟
- ينوّخ الجمل لأجلها..
- يدوّخ؟
- ينوّخ.. ينوّخ.. لِمَ لا تفهمين كلماتي؟ يثني ركبتيه ويستوي جالساً على الأرض، ثم تركب.
- ألا تخاف منه؟
- البعير والناقة أجمل مخلوقات الله، من الذي يخاف منهما؟
- أنا أخاف، أخاف أن ترمحني الناقة كما فعلت بجارنا أبو غازي.
- أبو غازي جاء من خلفها فرمحته، كل من يأتي الآخرين من خلفهم ينال عقابه، واجهي العالم ولن يخيفك أحد.
تضحك ضحكة قصيرة، ثم تبدأ بفتل الخصلات في ظفائر صغيرة، وهي تغني لي بصوتها الأبح الدافئ:
قومي العبي يا زمزم
والكحل بعينك يلزم
لا تذبحين المسلم
خلّي قلبك له فيّة
أنصت لغنائها مستسلمة، تصمت، فأخبرها أن عنقي بدأ يؤلمني فتعللني بأننا (قاربنا أن ننهي جهة اليمين).
تدير جسدي ليصبح جانبي الأيسر ملاصقاً لها، وتبدأ مرة أخرى تغمر منابت شعري بالحناء في عملية يبدو لي أن لا آخر لها، أتململ، تنهرني كي لا أتحرك فتصبغ كتل الحناء عنقي ونحري، لا أدري ما الذي أفعله بهذا الوقت الطويل! أرقب رتلاً من النمل ذاهباً إلى جحره في صف منتظم يحمل فتات الخبز والسكر، أسألها: هل يطبخ النمل الطعام في بيته؟ لا، تجيبني. تبدو منهمكة جداً حتى يخيل إليّ أنها ستبلغ بالحناء قاع دماغي، تهب لفحة من الهواء تحرك سعف النخل وأغصان السدرة من فوقنا.. تواصل غناءها من جديد وهي تربت على ظهري فأعلم أنها قد شارفت على الانتهاء:
قومي العبي يا سارة
يا جرة العطارة
يا الله تجيب الغارة
(كلن) ينهب بنية
أسألها: لماذا ينهبون البنية؟ تجيبني: لأن جدايلها طويلة..
قلت لها وأنا مطأطئة الرأس: قصصتها كي لا ينهبني أحد!
شيعتني بعينين امتد فيهما ليل من الخيبة والألم، لم تكلمني بعدها لأيام.
أعلم أنها غاضبة جداً، لكنني مللت من رائحة الحناء، وهذا الشعر الكثيف الذي لا أعرف كيف أسرحه، ولا أجد ربطة شعر تحتوي خصلاته الثائرة.
كبرت ولم أترك لشعري فرصة أن يتجاوز منتصف عنقي، وكان عتبها يكبر كلما رأت فتاة بشعر طويل، وأنا أعدها أنني سأعيده كما كان حين أملك مزاجاً صافياً.
لم ألحظ أن ملامحها كانت تشيخ وهي تحلم بعودة ظفائري، حتى كان ذاك المساء حين كنت أحاول تسليتها عن أوجاعها بما أستطيع من القصائد والأغنيات، رقصت أمامها بالهامة وثوب عتيق، قلت لها ضاحكة: صفقي لي والا ما أعجبك رقصي؟ قالت بصوتها الواهن: وش طعم الرقص بلا شعرٍ طويل؟ سألتها: لو طال شعري تصفقين؟
ردت وعلى أطراف شفتيها ابتسامة حالمة: وأقوم أرقص معك لو يطول..
ثم غامت في عينيها دمعتان.. أتبعتهما بآهة اخترقت حسرتها أضلاعي.
هزني حلمها الجاثي على عتبات طفولتي، ورأيت عروق قلبها معلقة بجديلتين تفوح منهما رائحة السدر والحناء، أقسمت لها أن يعود شعري طويلاً، ونهضت فوراً أبحث عن أجود خلطة للحناء.. وأطيبها رائحة، خمرته ليلاً في طاسة النحاس وغطيته جيداً، منتظرة دفء الظهيرة لأدفن شعري فيه خصلة خصلة كما كانت تفعل.
ما كنت أتخيل أنني سأصرخ بعدها بساعات: واحنّاي!
اقتربت منها، وهم ينزعون أجهزة الإنعاش عن جسدها، بقيت وحدي معها مغيبة عن صوت النعي الآتي من البعيد، وخطى الممرضة التي غادرت، أتأملها.. أتأمل وجهها المضاء بهالة من سلام، كفيها المعرّقتين وكتفيها المنتصبين رغم الموت، كأنما كانا على موعد للرقص مع ظفائري في فضاء بعيد.
هبت ريح ناعمة تحمل هديل السعف ورائحة الحناء.. انحنيت أمسد جبينها وأغني:
قومي العبي يا زمزم
والكحل بعينك يلزم
لا تذبحين المسلم
خلي قلبك له فيّة

ذو صلة