مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

رمز للتراث والثقافة

عرفَ العربُ في شبه جزيرتهم كثيراً من الحيوانات، لكن أشهرها وأحبها إليهم كانت الإبل، ويسمونها (الأنعام)، قال اللغويون (النعم مختص بالإبل)، وهي (إنْ حملتْ أثقلتْ، وإنْ سارتْ أبعدتْ، وإنْ حلبتْ أروتْ، وإنْ نحرتْ أشبعتْ).
هي التي تمدهم بالألبان واللحوم، ومن أوبارها ينسجون خيامهم وكساءهم، وبها يفدون القتلى ويفكون بها الأسرى.
قال الله سبحانه وتعالى: (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (سورة الغاشية). خصّ الله سبحانه وتعالى الإبلَ من دون الحيوانات أنْ يتأملها ويتفكرَ فيها الإنسان، كيف خلقت، وقد قدمها الله سبحانه وتعالى في الآيات على السماوات والأرض، وفي ذلك حكمة، ودلالة على عظمتها.
تحتل الإبل مكانة خاصة لدى المجتمع السعودي والخليجي، باعتبارها أهم الموروثات الثقافية. وشكلت الإبل في حياة إنسان شبه الجزيرة العربية، حضوراً دائماً، منذ قديم الزمان، فقد كانت مصدراً للمأكل والمشرب ونقل البضائع والمتاع، والترحال والسفر، وكانت مصدراً اقتصادياً مهماً.
لا يمكن لشخص مهما كان، أنْ يتصور الحياة البدوية دون الإبل، بل قد تكون الحياة مستحيلة خاصة في تلك الصحراء الشاسعة.
رغم التقدم والرقي والحضارة، حافظت على مكانتها، فقد صارت رمزاً من رموز التراث والثقافة المستمدة من الأصالة، لِما كان لها من دور بالغ الأهمية في حياة العربي البدوي، وفي كافة المجالات، فهي تعبر عن ماضٍ وتاريخٍ عريقٍ مؤثل.
تعتبر الإبلُ واقعاً حقيقياً، فهي مرآة تعكسُ التراثَ، وجزءٌ مِنِ الثقافةِ والتراثِ والهُوية. ولها وجود عميق، في أقدم النقوش في المناطق الأثرية.
الارتباط القوي والوثيق بين الثقافة البدوية المحلية والإبل يعكس الهوية، وفي ذلك رسالة مهمة للأجيال القادمة بل وللعالم أنْ تحافظ على الهوية الوطنية، وأن تتعرف على الإبل والدور الجليل الذي قامت به لدى الأجداد وأثرها العظيم، بل كانت هي المرفأ الذي عبرت منه إلى آفاق المستقبل، فهي مجال خصب للدراسات والبحوث.
كانت الإبل أساس الحياة البدوية في المسكن، في الأكل، في المشرب، والتنقل والترحال، لولاها قد تكون حياتهم مستحيلة في الصحراء، فالعلاقة قوية بين العرب والإبل، وهناك تفاعل وجداني بين الإبل والعربي والصحراء، لهذا اهتم الشعراء والأدباء بها في الماضي وفي الحاضر، ونجد أبرز شعراء العصر الجاهلي قد تغنوا بالإبل وهذا يدل على ارتباطها بحياتهم، فالإبل تتفاعل معهم، تحس وتتأوه، تسعد وتتألم، يتعامل الشاعر معها كالإنسان، لها مشاعر وأحاسيس، حيث لا تكاد تخلو أشعارهم منها، فقد تغنى بها الشعراء المشهورون وعلى سبيل المثال: امرؤ القيس، الأعشى، النابغة الذبياني، زهير بن أبي سلمى، طرفة وعنترة وغيرهم كثر. فهذا هو الشاعر المثقب العبدي يتحدث عن ناقته:
إذا ما قمتُ أرحلها بليلٍ
تأوه آهةَ الرجلِ الحزينِ
تقول إذا درأت لها وضيني
أهذا دينه أبداً وديني
أكلُّ الدهرِ حلٌّ وارتحال
أما يبقي عليّ ولايقيني
يقول امرؤ القيس:
كأنّي غداةَ البين يوم تحملوا
لدى سمرات الحي ناقِفُ حَنظلِ
ويقول كثير عزة:
رأيتُ جمالَها تعلو الثنايا
كأنّ ذرى هوادجها البروج
حتى الشاعر أحمد شوقي في العصر الحديث تحدث عن الإبل، ولكن استخدمها استخداماً رمزياً، وفي هذا ربط للماضي بالحاضر عن طريق التراث، حتى يضفي على الشعر قوة وجلالاً.
قد تحدث كثير من الأدباء واللغويين عن الإبل، فعلى سبيل المثال: ابن النديم، ابن قتيبة، الأصمعي، النضر بن شميل، الكسائي، الدميري... وغيرهم.
ونجد الإبل أيضاً في الأمثال:
(ما هكذا تورد الإبل)، (لا ناقة لي فيها ولا جمل)، (أخفّ حملاً من بعير)، (القشة التي قصمت ظهر البعير).
كانت الإبل في الماضي وسيلة نقل للبضائع وللناس، وكان الجمل في الماضي يسمى (سفينة الصحراء)، لتحمله المشاق والعطش، والأحمال الثقيلة، والسير لمسافات بعيدة، دون كلل أو ملل.
الإبل ثروة وعامل اقتصادي مهم، ففي الماضي كان تدفع في الديات، وتمدهم باللحوم والألبان والأوبار، والجلود، والتداوي بألبانها وأبوالها.
قد أنشئت حديثاً مصانع متخصصة في إنتاج حليب ولحوم الإبل، بالإضافة لجلودها، والاهتمام بالبحوث لتطوير منتجات الإبل أو العلاج البيطري.
إقامة المهرجانات والسباقات للإبل، تعد قبلة للسياحة، وتعكس وجهاً مشرقاً للمملكة العربية السعودية قبل العائد الاقتصادي.
الإبل غير مقصورة على شبه الجزيرة العربية، بل موجودة في أماكن كثيرة أخرى من العالم وبأعداد مهولة، مثلاً في شرق أفريقيا يوجد منها حوالي 19 مليوناً، وفي سهول الهند حوالي نصف مليون، وفي براري أستراليا تقارب المليون لكنها متوحشة.
وللإبل رمزيتها في بعض الدول، ففي حدائق بريطانيا تقام النصب التذكارية والتماثيل التكريمية للجمل والهجانة من الجنود الذين كانوا يمتطونها إبان الحرب العالمية الأولى. وعلى شط نهر (التايمز) بـ(لندن)، تزخرف أطراف الكراسي على هيئة الجمل الرابض.
في القرن التاسع عشر نصح أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي بجلب الإبل لأراضي الهنود الحمر حتى تساعدهم على الثقافة والتحضر والرقي والمدنية.
في دولة السودان كان الجمل شعاراً لمديرية من المديريات، وكان يطبع على بعض العملات النقدية (المعدنية والورقية). في ولاية غرب كردفان، يوجد فرع من قبيلة الحمر (أبوزيد) كانوا لا يأكلون لحم الإبل، ويزعمون بأنّ جدهم قد هاجر ببعير وقطع مئات أو آلاف الأميال، حتى وصل إلى مبتغاه، وأصبحت بينه وبين هذا البعير عشرة وعلاقة وجدانية، فإخلاصاً ووفاء حرموا على أنفسهم أكل الإبل، وحتى الآن بعض أفراد تلك القبيلة لا يأكلون لحوم الإبل.
على الرغم من وجود الإبل في أماكن كثيرة من العالم إلا أنّ دور الإبل في شبه الجزيرة العربية لا يضاهيه دور، لهذا عندما نقارن الاحتفالات برمزيتها مع الدول الأخرى فإنها تتضاءل بالنسبة للمملكة العربية السعودية، وهذا يدل على تفرد الدور الذي لعبته الإبل في شبه الجزيرة العربية.

ذو صلة