مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

أسماء الإبل وسيميائية التعدد في الثقافة العربية

تحمل المعاجم العربية قوائم طويلة من أسماء الإبل. فهل يمكن أن نستنتج بعض الدلالات الثقافية من هذا التعدد؟ لا يمكن أن نحمل العيس والركائب والنوق والمطايا والجمال والبعير والهجن والظعائن محمل الترادف، فالعلوم اللسانية الحديثة تؤكد أن كل زيادة في اللفظ هي بالضرورة زيادة في المعنى وإثراء للدلالات. ويمكن للسيميائية، بما هي علم يهتم بالعلامات والرموز ودلالاتها؛ أن تنير لنا جوانب من هذه العلاقة الوجدانية ذات الأبعاد الثقافية الثرية بين العربي وأسماء الإبل. ولو اعتبرنا الألفاظ الواسمة للجمل أو الناقة في مختلف التعبيرات الثقافية وبما حملته المعاجم اللغوية من مئات الأسماء، علامات لغوية ذات مدلولات متنوعة، فمن الخطأ أن نحصر تلك المدلولات -من وجهة نظر سيميائية- في تصنيف الألوان والأعمار والفصائل والصفات لحيوان حمل على ظهره وجداناً مثقلاً بالقصص والأساطير والقيم والأبعاد والتاريخ.
من أجل ذلك لا تمثل أسماء الإبل مجرد سجل لحيوانات فرضها نمط الحياة الصحراوية على الثقافة العربية وإنما هي رموز لمعانٍ كثيرة تنظم نمط الحياة العربية ودوال متعددة المعاني تحمل في أعماقها شبكة من القيم الثقافية التي تحرك وجدان العربي قديماً وحديثاً. ولو كان الأمر على غير ما تذهب إليه هذه القراءة السيميائية، فما الذي يجعل العربي صانع الحضارة قديماً ومشيّد المدن والمعالم حديثاً يترك دائماً في وجدانه ركناً دافئاً تستريح فيه تلك الرموز المتصلة بالإبل كما تستريح الراحلة في مواضع الخصب مؤذنة باستمرار شغفه بالجمال رمزاً وطنياً وعنواناً للهوية الثقافية.
تطرح الأركان النظرية للسيميائية عند جيل المؤسسين شبكة من المصطلحات والمفاهيم المساعدة لنا في بسط هذه القراءة. ويمكن لهذه الأدوات النظرية أن تعيننا في تفسير هذا البعد الرمزي للثراء المعجمي لأسماء الإبل، وهذه الطبقات الدلالية الكامنة وراء الدلالات الحسية من خلال استنتاجين رئيسيين.
أما الاستنتاج الأول فيتعلق بالتمييز بين الجمل كائناً مرجعياً يوجد في الحياة البدوية وبين ثراء الصور الذهنية المتصلة بأسمائه والتي يحملها الوجدان ويصلها بالكثير من القيم مثل الصبر والقوة والأمل والتفوق، فليس الحرص على تسجيل معاني الأسماء في المعاجم اللغوية تعبيراً مباشراً عن الأنواع والفصائل بل هي علامة على حرص العربي على تسجيل شغفه بهذا الحيوان في مختلف الأوضاع والأحوال التي تجمعه برفيق دربه، ولذلك يرى صفاته منعكسة فيه.
ذلك ما نستفيده من رأي أحد ركني تأسيس السيميائية العالم السويسري فردينان دي سوسير فقد اعتبر الأسماء علامات غير مبنية على التصور الثنائي الإغريقي القديم: الاسم كما ينطق والشيء الحقيقي كما يبصر. وإنما يكون الاسم علامة لغوية ثنائية ذات طابع مفهومي لأنها تجمع بين صورتين في النفس لا في الواقع، أولاهما صورة سمعية وتثيرها أسماء كثيرة لأنواع الإبل قاربت الألف اسم في المعاجم العربية. وكل صورة سمعية إنما تختلف عن الأخرى لأنها ترتبط بصورة ذهنية تلازمها وهي مناط المعنى ومرتكز التصور السيميائي. وتكون كل صورة مرتسمة في العقل متصلة بلفظها اتصالاً دلالياً فريداً ينفي كل ترادف.
غير أننا لا نعتقد أن سيميائية الأسماء بهذا التصور تعكس مجرد تعدد للأسماء في اتصالها بصورة نمطية، بل هي تتصل بتنوع الصور الذهنية التي ينشئها العربي حول الإبل في مختلف أحوالها وأوضاعها وألوانها. ولو كان الأمر مجرد ترادف يتصل بتعدد الصور السمعية ووحدة المدلول لكانت أسماء الإبل مجرد سجل لتاريخ علم الحيوان باعتباره فرعاً لعلم الأحياء تصف البعير واقفاً وجالساً صغيراً وكبيراً صحيحاً وسقيماً.
إن تعدد الأسماء تدل على تعدد الصور الذهنية التي أودعها العربي للمعجم وضمّنها في صور القصائد وثراء الدلالات الثقافية البارزة وقوامها أن العربي يهيم شغفاً بهذا الحيوان والحقيقة أنه يهيم شغفاً بصفاته، فالجمل يغار ويتذكر ويسبق بقوة ويصبر ويثأر لنفسه ويتألم حد البكاء، فهو كائن يشبه الإنسان، ولذلك دأب الشعراء على تصويره في ملامح المنقذ في بنية عمود الشعر فهو الذي ينقله بعزة من حزن الأطلال إلى أمل الحياة حتى صار وصف الرحلة والراحلة ركناً شعرياً يعبر به عن دورة الحياة المتجددة وانبثاق الأمل من بقايا الفقد. وثقافة العربي تصور الجمل عموماً الصاحب والرفيق الذي يشكو إليه همه. ويرى فيه السيد الكريم الأصل الذي يغار على عرضه ويأبى الضيم. وكما كانت بعض الثقافات تجعل الأسد مشبهاً به تقاس به شجاعة الأبطال تجتمع في مخيلة العربي صفات الفحولة والفتوة في الصورة الذهنية لحيوان حبر سلوكه جيداً وأيقن أنه شبيهه لأنه يجمع بين القوة والبأس والصبر والهدوء والأنفة في تركيبة عربية أصيلة غير منقولة من النماذج الثقافية الأخرى.
أما الاستنتاج الثاني الذي نقيمه على بعد سيميائي فنعتمد فيه على التصور النظري للمؤسس الثاني لعلم السيميائية وهو الفيلسوف الأمريكي شارل بيرس. وبناء عليه يمثّل كل اسم من أسماء الإبل مساراً فكرياً دلالياً حمال وجوه من المعنى المؤوّل، لأن العلامة تتكون في نظره من ثلاثة أركان مترابطة: أولها الممثل، وهو الاسم المنطوق الحامل الصوتي في سياق موضوعنا لأحد الألفاظ الواسمة لصنوف الإبل، وأما الركن الثاني من العلامة فهو الموضوع، وهو الحيوان المرجعي الذي تدركه الأبصار وتصنفه خبرات العربي إلى أنواع وصنوف. وأما الركن الثالث فيسميه المفسّر أو المؤوّل وهو الفهم الذي نحمله في عقولنا من ارتباط الوسم اللفظي بالموضوع الموسوم.
إن البعد الثقافي في أسماء الإبل يتجلى في هذا الركن الثالث لأنه مركز المعنى في أي علامة. إن دلالة الاسم تكمن فيما نقيمه من فهم وتفسير للأسماء في اتصالها بالموضوع الموصوف. ولا يمكن لهذا الفهم إلا أن يكون انعكاساً أصيلاً لثقافتنا متصلاً بعمق بمدى استيعابنا لصفات الموضوع كما نريدها أن تكون. ولذلك تتصل دلالات أسماء الإبل من زاوية سيميائية بمختلف الدلالات التي ينشئها فهمنا العربي لصفات الإبل انطلاقاً من قيمنا الأصيلة. فحين يكون للجمل أسماء متعددة فهذا يعني أنه يحمل صفات متعددة، وهي في الحقيقة صفات مشتقة من الإنسان العربي في اعتداده بنفسه واعتزازه بكرم أصله وسمو قيمه، ولذلك نلاحظ أن بعض هذه الصفات ليست وصفاً حسياً بقدر ما هي إسقاط دلالي لقيم ثقافية بشرية يعتز بها العربي ولا يجد غير الجمل ممثلاً لها، منها: الفحولة والقوة والعفة والغيرة والصبر والحكمة.
وقد بلغ ولع العرب بفنون التسمية للجمال مبلغاً عظيماً جعلهم يعتمدون أحياناً على بلاغة الكناية في إطلاق الأسماء على إبلهم قديماً وحديثاً فيسمون الذكر منها بأبي صفوان وأبي أيوب، ويكنون عن النياق بأم مسعود وبنات البيداء. ويطلقون على الإبل عموماً أسماء تعكس صفات جميلة يحبونها وقيماً ثقافية يعلونها وهي قيم تتصل بالخصب والأمل والانتصار، فيضمنونها في أسماء من قبيل الذهبية والتبر والديمة.
وخلاصة هذه النظرة السيميائية أن الأسماء المتعددة للإبل في ثقافة العربي لم تكن مجرد سجل طبيعي للأحوال الخاصة والأصناف المختلفة لحيوان أليف. بل هي علامات على سجل ثقافي للقيم والأبعاد كما يراها العربي في نفسه وكما يراها منبثقة من ذاته منطبقة على شموخ هذا الحيوان - الإنسان. أفليست الأسماء بما تحمله من صفات مستودعاً لصورة سامقة نحتها العربي للإبل من نفسه فأنى له أن ينساها اليوم وهو يجد سمو تلك الصفات ممثلة في ارتفاع أعناق الجمال، فيسميها بأسماء كانت ولا زالت عنواناً لهويته الثقافية شموخاً وأنفة وصبراً وثقة في المستقبل.

ذو صلة