مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

Little Fires Everywhere عن الأمومة وأشياء أخرى

المسلسل مقتبس عن رواية بنفس الاسم للروائية الأمريكية من أصل صيني (سيليست إنغ)، وهي ابنة لفيزيائي يعمل في وكالة ناسا، وكيميائية تُدرّس في جامعة كليفلاند، والدها مهاجر أتى من هونغ كونغ في الستينات، وانتقلت سيليست مع عائلتها إلى (شاكر هايتس) بولاية أوهايو وهي في عمر العاشرة، وتخرجت من مدرسة شاكر هايتس الثانوية عام 1998، وأحداث الرواية تدور في شاكر هايتس عام 1997، بالطبع هذا لا يعني بالضرورة أن المؤلفة كتبت قصة حياتها، لكنها قررت أن تستلهم من تجربتها الشخصية، لتعيد بناء تلك المرحلة في عمل أدبي يناقش همومها وهموم المجتمع الأمريكي في تلك اللحظة.
مدينة شاكر هايتس هي أول مدينة خُططت قبل بنائها في القرن العشرين، ومنذ بداية التترات نطالع على صفحة جريدة مانشيت: (يوتوبيا عصرية - أوهايو بلدة الأحلام التي تتحقق)، وأهمية ذلك المدخل أنه يحيلنا إلى أمرين: الأول: هو أهمية التخطيط بالنسبة للمكان وأثره على قاطنيه، والثاني: ادعاء يوتوبية أخلاقية، حيث تذوب الفوارق بين الأعراق المختلفة، وكلا الأمرين سيتعرضان للاختبار والتدقيق.
(إيلينا ريتشاردسون) أم وزوجة أمريكية تقليدية، تعمل صحافية، ويدر عليها عملها مع عمل زوجها المحامي دخلاً هائلاً، يجعلهما ضمن أثرياء المدينة، وهي شخصية تخطط كل شيء في حياتها، ليس فقط فيما يخص عملها ومهامها المنزلية وقائمة الوجبات بالترتيب، إنها حتى لا تكون في علاقة خاصة مع زوجها إلا في أيام محددة، ولا يوجد أي شيء في حياتها قابل للارتجال أو التغيير، ولذلك تنزعج عندما ترى أماً وابنتها نائمتين في سيارتهما المُحمّلة بحقائب سفر، وتبلغ شرطة المدينة عنهم حتى يتخلصوا منهم في حالة كانوا مشردين محتملين، ولذلك أيضاً تتحمل إيلينا كل شيء في حياتها، إلا حملها الأخير الذي لم يكن مخططاً له، وما نتج عنه من أثر سلبي على مسارها الوظيفي، ولكنها لا تعترف بذلك إلا في النهاية، وتضع فوق ذلك الجرح مساحيق تجميل متمثلة في ادعاء الانضباط وعدم التدليل تجاه ابنتها (إيزابيل) المختلفة عنها في كل شيء.
ولذلك يصعب على إيلينا كثيراً التعامل مع الوافدة الجديدة (ميا)، فهي فنانة تعيش حياة بوهيمية أقرب إلى الغجر، كثيرة الترحال، تعتمد على سيارتها كمأوى دائم، إلى أن تجد شقة مناسبة من مدينة إلى أخرى، أي أنها الصورة المعاكسة كلياً لقيمها وقيم المدينة المخططة بعناية، وتظل ثنائية النظام/الفوضى قائمة بينهما حتى النهاية، لتكتشف إيلينا أن حياتها المنظمة ما هي إلا كذبة كبيرة، وأن مجرد خلخلة بسيطة في قواعدها قادرة على هدمها تماماً.
يفضح كتاب صوتي تستمع له ميا حقيقة المدينة الفاضلة، حيث أن توافد الكثير من الأعراق المختلفة على شراء المنازل الجميلة هناك، قد خلق توتراً بين السكان الجدد، والبيض الذين أتوا أولاً، وظل التوتر يتصاعد حتى حدث انفجار مدبر في منزل أحد القاطنين من الأفارقة الأمريكيين، ولذلك بذلت المدينة الكثير من الجهد، وبخاصة عبر منظوماتها التعليمية، عن ضرورة التعايش بين الأعراق المختلفة، ورغم البروبجاندا التي تقول إن كل التوتر قد زال منذ سنوات طويلة، إلا أن الحقيقة ليست كذلك.
وهو ما يؤكده العمل درامياً في أكثر من موضع، فمثلاً مع دخول (بيرل) ابنة ميا مدرسة شاكر هايتس الثانوية، ويرفض المستشار التعليمي للمدرسة، طلبها بنقلها إلى صف متقدم لمادة الرياضيات، بحجة أنها كانت في مدرستين مختلفتين في نفس الصف الدراسي، ولكن الحقيقة تتخفى وراء منظور عنصري من ناحية، وطبقي من ناحية أخرى، مثل أن يسألها في تلك اللحظة بالذات إن كانت في حاجة إلى استمارة لطلب الوجبات المدعومة، أو عندما ترفض صاحبة المتجر إعطاء الأم الآسيوية حليباً صناعياً لرضيعتها، لأنها لا تملك المبلغ الكافي، ينقصها 70 سنتاً على وجه التحديد، وهو نفس المبلغ الناقص عينه الذي تجد إيزي أنها في حاجة إليه كي تركب حالفة وتعود إلى المنزل، ولكن المجتمع يتساهل مع الفتاة البيضاء الثرية نقص المال، أو عندما تظن إيلينا أن الأشخاص السود يجب أن يكونوا على معرفة ببعضهم البعض بالضرورة، ويتوج كل ذلك مع منظومة القضاء التي تحكم لصالح الأسرة البيضاء الثرية ظلماً.
اهتم العمل أيضاً برصد أهم الهموم النسوية في وقته، ففي الحلقة الأولى هناك إشارة إلى (أدريان ريتش)، وهي شاعرة أمريكية وكاتبة نسوية، وتعد واحدة من أكثر الشعراء تأثيراً في القرن العشرين. والمهم أن الإشارة إليها هنا ليس اعتباطاً، ففي عام 1997 الذي تدور به الأحداث، رفضت ريتش الميدالية الوطنية للفنون التي منحها إياها الرئيس بيل كلنتون، بسبب رفضها لسياساته، وهو ما أثار جدلاً كبيراً في حينها. هناك أيضاً نادٍ للكتاب تقيمه إيلينا وصديقاتها، وهو شكل من أشكال الوجاهة الاجتماعية ليس إلا، فالمسرحية التي من المفترض أن يناقشوها (مناجاة المهبل) للكاتبة إيف إنسلر، التي صدرت عام 1996 وكانت حديث المجتمع حينها، والتي اعتبرها النقاد فيما بعد (أكثر قطع الأدب السياسي أهمية في العقد الماضي)، ورغم ذلك تجد إحدى السيدات تطمئن صديقتها المنزعجة أن النادي يطرح للنقاش أعمالاً مثل (كيف استعادت ستيلا حيويتها)، وهي رواية خفيفة تتضمن رحلة إلى جمايكا ومناسبة لاهتمام تلك الشريحة من القراء، وقد صدرت لاحقاً في فيلم سينمائي بنفس الاسم عام 1998، تستغل إيلينا عدم فهمها للمسرحية، لإبداء التفوق بكونها أماً لأربعة أبناء، على خلاف بعض صديقاتها اللاتي لم ينجبن لأسباب صحية أو لعدم رغبة في ذلك، وهو ما يوقعها في مشكلة لا ينقذها منها سوى ميا، التي قرأت المسرحية واستوعبتها كفنانة وقدمت طرح المؤلفة وغرضها منها.
لا تؤمن سيليست إنغ بفضيلة الإيثار في صورتها النقية، لا يوجد في الرواية والمسلسل إيثار صافٍ بريء، فهو دائماً لا يخلو من أنانية واضحة، وهو ما تكرر مع عدد من الشخصيات، فمثلاً إيلينا تعرض على ميا وظيفة مدبرة المنزل لمساعدتها في دفع إيجار الشقة التي تؤجرها لها، ولكنها في الحقيقة تريد خادمة، وهو ما ترفضه ميا بوضوح، وحتى عندما توافق عليه وفق شروطها، تنزعج إيلينا لأنها لن تؤدي دورها كخادمة كما تتخيلها، ولذلك تترك لها الأطباق المتسخة لتغسلها في غضب، بينما تصب ميا ساعات الصباح على عملها الفني، وعلى نفس منهج والدتها تتبع الابنة (أليكسي) نفس الأمر مع بيرل، فهي تصادقها، تشتري لها فستاناً، لماذا؟ لكي تسرق قصتها مع حصة الرياضيات وتستخدمها في ملف تقديمها لجامعة يال من ناحية، ومن ناحية أخرى لتستميل صديقها أسود البشرة إليها، وحتى عندما تحتاج أليكسي إلى القيام بعملية إجهاض، تختار بيرل دون بقية صديقاتها، وهو ما تسعد له الأخيرة، قبل أن تكتشف أن أليكسي قد استخدمت اسمها في الكشف الطبي حتى لا يفتضح أمرها، وتصل ذروة الإيثار الأناني مع ميا نفسها، التي تضحي بثروتها السرية لتوكيل محامٍ وتدافع بشراسة عن حق الأم الآسيوية في استعادة ابنتها، لنكتشف في النهاية أن حتى ميا كانت تتحرك بدوافع شخصية، وأنها بسبب قصة قديمة أثرت على حياتها، أرادت أن تثبت لنفسها أنها على صواب فيما فعلته في الماضي.
تمثل الأمومة التي اختيرت لتكون التعريف الأول عن المسلسل في عنوان المقال، حجر الزاوية في العمل، بحيث تتفرع منها كل الثيمات والمواضيع السابق ذكرها، وكما أنه لا يوجد إيثار بريء نقي، لا توجد أمومة بلا أخطاء، فإيلينا التي لم ترغب في طفلة رابعة تخرب حياتها، قررت أن تقضي البقية الباقية من حياتها تعاقب تلك الطفلة التي لا ذنب لها، فهي الوحيدة التي لا تستخدم معها كنية كبقية إخوتها، وهي الوحيدة التي لا تحاول أن تفهمها أو تحتويها، بل تتلاعب بميا وبنا كمشاهدين عندما تبكي لأن إيزي ترفض احتضانها مثلما كانت تفعل وهي صغيرة، بينما في الحقيقة لا تتسامح إيلينا مع شخصيتها ولا ميولها ولا وجودها من الأساس.
هناك أيضاً ميا التي حرمت ابنتها من حياة طبيعية، من منزل مستقر، ومدرسة ثابتة، وغرفة خاصة، وقبل كل ذلك أب يحبها ويريد رعايتها، حتى أصبحت بيرل على استعداد أن تتحول إلى هوية مشوهة أقرب للمسخ، فقط لتحصل على قبول وصداقة زميلاتها وعائلة ريتشاردسون، فضلاً عن الأم الآسيوية (بيبي) التي يئست من رعاية ابنتها، فوضعتها أمام مركز الإطفاء في قلب الليل والبرد القارس الذي كاد يقضي على حياتها، قبل أن تتأكد أنه قد تم إنقاذها، فقط كي لا ينكشف أنها مهاجرة غير شرعية ويتم ترحيلها من الولايات المتحدة، دون أن ننسى الأم المحتضنة (ليندا)، التي قررت أن تقوم بعملية انسلاخ كامل لهوية الطفلة من الثقافة الصينية، وتربيتها كطفلة بيضاء أمريكية، وأليكسي التي لم تفكر مرتين قبل أن تجهض جنينها، فقط لتحافظ على وجود حبيبها.
شخصيات (حرائق صغيرة في كل مكان)، يشتركون في شيء آخر مهم، وهو أنهم جميعاً يخافون من النظر إلى الجانب المظلم في شخصياتهم، باستثناء ميا، التي ساعدتها معلمتها في كلية الفنون على الخوض في ظلمات نفسها، بل التعبير عن الأمر عن طريق الفن، الفن الذي يستطيع استيعاب الكثير دون أن يضطر إلى الشرح والتفسير، إيلينا مثلاً تعترف أمام نفسها بعدة أخطاء، أو على الأقل تكون واعية بها، أنها أنانية أو متسرعة أو متعالية، ولكن هناك في العمق الدفين لا تريد الاعتراف بكونها أماً سيئة، لذلك عندما تصدمها ميا بحقيقة أن ابنتها أليكسي أجهضت دون أن تخبرها، بل لجأت إلى ميا لتنام بين ذراعيها بعد العملية، بعدما سرقت اسم وقصة بيرل لمصلحتها الشخصية، لا تتحمل إيلينا ذلك الجانب، ولذلك تطلب من ميا أن تغادر في الصباح، وتصرخ في وجه أليكسي مخبرة إياها أنها فتاة مثالية بالفعل، زوجها أيضاً يخشى الاعتراف أمام نفسه أن زوجته ما تزال تشعر بحنين تجاه حبيبها القديم، بل قابلته مرتين بالفعل، الابن الأكبر (بيرت) لا يريد مواجهة نفسه كشخص نذل وجبان سرق حبيبة أخيه دون أن يواجهه ويعترف له بحقيقية مشاعره تجاهها.
يطرح المسلسل أيضاً سؤال شائك حول الحساسية العرقية، فهل تطلب سيدة بيضاء من أخرى سوداء أن تعمل لديها مديرة منزل، هل في ذلك عنصرية، أم أن العنصرية ألا تطلب منها ذلك بسبب لون بشرتها والحمولة التاريخية والاجتماعية الحساسة للأمر، فضلاً عن كونها تحرمها من وظيفة براتب مرض بسبب لون بشرتها، هل عدم اهتمام أليكسي بلون بشرة صديقها كما تصرح له، هي قمة القبول أم قمة العنصرية، كونها لا تعرف الأمر كجزء أصيل من شخصيته، أم أن التعريف به من خلال تلك الهوية يضعه في قولبة جاهزة يريد المجتمع تخطيها للأبد.

ذو صلة