مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الزمن في السينما وتطبيقاته في إخراج الفيلم القصير

لطالما نظر إلى الفيلم القصير على أنه اختصار زمني لنظيره الأكثر انتشاراً وهو الفيلم الروائي الطويل حتى نظر البعض إلى هذا النوع الفيلمي على أنه ليس إلا فيلم طويل تم ضغط أحداثه وذلك من خلال تقليص الزمن من ساعة ونصف أو ساعتين إلى ربع ساعة أو أقل.
لا شك أن هذا التفسير فيه كثير من عدم الدقة والتبسيط لكنه يبدو مدخلاً مناسباً لفهم إشكالية الزمن في الفيلم القصير وبخاصة من الناحية الإخراجية، لأن عملية الإخراج بالمحصلة النهائية هي التي تقدم لنا الشكل الفيلمي النهائي، وقد ظهر فيه عامل الزمن بشكل واضح.
من هنا يجب أن نحدد نقدياً وجمالياً أننا عندما نتحدث عن الفيلم القصير، الروائي تحديداً فإنما نتحدث عن نوع مستقل له اشتراطاته وبناه الجمالية وله طريقة معالجته لإشكالية الزمن وبالتالي تبلور تلك العلاقة الوثيقة بين الزمن والسرد الفيلمي وهي الإشكالية الأهم وأحد أهم أسرار المعالجة الزمنية للفيلم القصير التي نحن بصددها الآن.
من هنا يمكن القول إن هناك بناء سردياً مختلفاً ومعالجة مختلفة للزمن تتداخل في العملية الإخراجية للفيلم القصير وبمعنى أن يشتمل عمل المخرج على تقديم بناء سردي متكامل وناضج يصل إلى الأهداف والغايات الدرامية المبتغاة وكذلك تقديم معالجة مبتكرة ورصينة لعنصر الزمن في الفيلم القصير في شكله النهائي.
يقول المخرج الكبير أندريه تاركوفسكي في كتابه (النحت في الزمن) أنه كما كانت المادة المستخدمة في الرسم هي الألوان والأصباغ، وفي النحت الحجر أو الخشب، وفي الأدب الكلمة، وفي الموسيقى الصوت، فبالنسبة للسينما فإن المادة هي الزمن. إذا كان الفيلم فناً، فهو فن الزمن.
ولهذا فإننا عند تحليل وتفكيك الفيلم القصير نجد أنه يقوم على ركيزتين أساسيتين في التعاطي مع إشكالية الزمن وهما الزمن الواقعي المعاش والذي يقاس من وجهة نظر المشاهد والزمن الفيلمي، وهذا الأخير هو الأهم وهو الذي سوف ينقسم إلى عدة أزمنة يمكن تلخيصها بما يلي:
- زمن اللقطة والمشهد: وهو الزمن الكلي للفيلم ومساحته الزمنية المعروضة على الشاشة والمتكونة من مجموعهما.
- زمن الحدث: وهو الزمن الذي يستغرقه الحدث على الشاشة، وهذا يرتبط بشكل وثيق مع إيقاع الزمن في الفيلم وهو ما سوف نأتي للحديث عنه لاحقاً.
- الزمن الفاصل: وذلك عند الانتقال إخراجياً ومونتاجياً بين زمنين أو أكثر.
- الزمن النفسي: وهو ذلك النوع من الإحساس بمرور الزمن في السياق الفيلمي وهو مرتبط بعملية التلقي في حد ذاتها.
من هنا يمكننا الانطلاق في فهم الزمن مرتبطاً بالعملية الإخراجية وعلى أساس أن معالجة هذه الإشكالية إنما ترتبط برؤية المخرج واستخدام أدواته الإبداعية التي توفرها وتكرسها العناصر الثلاثة التي تخدم عمل المخرج وهي:
الصورة
الحركة
الصوت
ونجد خلال ذلك أن ديمومة الصورة على الشاشة بحسب رولان بارت ما هي إلا ديمومة زمنية خالصة تمتد بامتداد ولادة تلك الصورة وموتها أو أفولها على الشاشة.
وعلى هذا أيضاً يمكن النظر إلى التتابع الصوري على أنه تتابع ونمو زمني من وجهة نظر إخراجية وبها صار ذلك التدفق للصور بمثابة تدفق للزمن وتواتر لتحولاته ما بين ماض وحاضر ومستقبل.
وأما إذا انتقلنا إلى عنصر الحركة فلاشك أن الميزة الأساسية لفن الفيلم هو كونه مقرنا بالحركة وأن الفيلم ما هو إلا صور متحركة، وبذلك تستهلك الصور المتحركة زمناً وهي تتدفق على الشاشة وبما يعني بالنتيجة اقتران الحركة بالصورة وبالزمن في ثلاثية أساسية لابد من توظيفها إخراجياً وهو ما سوف يحيلنا إلى استخدام الحركة البطيئة أو السريعة بحسب الضرورات الإخراجية وبخاصة السرعة البطيئة في إظهار الفعل والحركة، وهي أداة تعبيرية وجمالية تستخدم إخراجياً لضرورة درامية محددة.
يصف جيل دولوز إمكانية السينما هذه بأنها انتقال من حركة الصورة إلى زمن الصورة.
إن هذا التمثل الإخراجي للزمن يحيلنا إلى زمنين ونحن نتدرج ونتعمق في فهم الزمن السينمائي من زاوية إخراجية، الزمن الأول هو ما يعرف بالزمن الخارجي، وهو الذي يتمثل في مدة أو طول الفيلم، وإيقاعه، فيما الزمن الداخلي الذي يتمثل في التحديد المسبق لطول المشهد على الشاشة ثم لنتعمق أكثر في هذا الاستقصاء وذلك بقيامنا بتقسيم الفيلم القصير إخراجياً إلى ثلاثة أقسام وهي المعتادة في الدراما الفيلمية، وهي البداية والوسط والنهاية أو ما يمكن أن نسميه بالمراحل 1 و2 و3 ولنلاحظ أن لكل مرحلة ميزتها الزمنية وإيقاعها الخاص فضلاً عن حلها الإخراجي.
من هنا يمكننا على سبيل المثال استقراء البناء الزمني من وجهة نظر إخراجية من خلال فيلم الزبيب للمخرج روب كارتر الذي شارك في العديد من المهرجانات، والذي يقدم لنا الشخصية الواحدة والوحيدة التي توقف الزمن بالنسبة لها وهي تعيش في أرض نائية، هنا سوف يبنى الإيقاع على أساس يوميات الشخصية ودورة حياتها الروتينية والرتيبة، والزمن الخارجي هنا يسير ببطء ويتناسب مع شخصية ذلك الكهل وإيقاع حياته اليومية.
أما في فيلم السماء للمخرج مات، فستبرز هنا شخصيتان رئيسيتان وهما خارجتان إلى الطبيعة بعيداً عن صخب المدينة، وهنا ثمّ تحوّل ملحوظ في الإيقاع ما بين المدينة الصاخبة وذلك الامتداد الواسع للطبيعة، فضلاً عن تحول في إحساس الشخصيتين بما حولهما مما يدفعهما إلى العيش بحسب إيقاع مختلف كلياً، وبهذا كان مسار السرد الفيلمي متناسباً مع الحقيقة الجديدة للشخصية وهي تلامس تلك الجغرافيا المختلفة.
في فيلم الدليل للمخرجة جودي فينيسترا سوف نكون مع شخصية امرأة تعيش يومها العادي حتى تتكرر يومياتها الروتينية وتستخدم المخرجة لقطات سريعة لإظهار عمليات التكرار وكذلك عامل مرور الزمن، وأما إذا انتقلنا إلى القسم 2 من الفيلم فإننا سوف نشهد نوعاً من المغامرة القائمة على فكرة البحث عن دليل يوصل إلى الكنز ولهذا تجدها تتنقل في بيئات مختلفة حتى تصل إلى الكنز، وإذا به مرآة تظهر صورتها فحسب.
هذه البلاغة التعبيرية كان اعتمادها الرئيس على عنصري الصورة والحركة، وألغي في هذا الفيلم الحوار بشكل كامل واستعيض عنه بما تحمله الصورة والحركة من دلالات، فضلاً عن تحميل خط الصوت بموسيقى مناسبة استمرت على امتداد الفيلم وملأت فراغ الحوار وقدمت قصة سينمائية متماسكة لم يترهل فيها الإيقاع المرتبط بالزمن بينما كان الحل الإخراجي قد أوصلنا إلى شخصية خارجة من الروتين الزمني وباحثة عن بدائل تحقق لها ما تسعى اليه.
في الختام، هنالك تساؤلات يطرحها صانعو الفيلم القصير فضلاً عن جمهوره ومشاهديه، وتتعلق بطول الفيلم القصير وكم هي مدة العرض الزمني للفيلم على الشاشة وما ينبغي على المخرج أن يضعه في اعتباره عندما يصنع فيلماً يريد أن يشارك به في مهرجانات عالمية.
ولإضاءة هذا الجانب لابد من القول بدءاً أن لكل مهرجان من المهرجانات العالمية اعتباراته وقانونه المختلف أي أن المهرجانات السينمائية تختلف فيما بينها في تحديد طول الفيلم القصير الذي تستقبله لمسابقاتها، فعلى سبيل المثال، نجد أن مهرجان سندانس الشهير يقبل الأفلام القصيرة التي تصل مدتها إلى 50 دقيقة بينما يقبل مهرجان لوكارنو السينمائي، ومهرجان كليرمون فيران للفيلم القصير بفرنسا، ومهرجان تورنتو السينمائي في كندا الأفلام القصيرة التي طولها 40 دقيقة. أما مهرجان برلين السينمائي، ففي اعتباره أن الحد الأقصى لوقت العرض هو 30 دقيقة، أما المسابقة الرسمية للفيلم القصير في مهرجان كان فتشترط أن لا يزيد طول الفيلم عن 15 دقيقة.

ذو صلة