مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

كيف ظلم توفيق الحكيم.. فولتير؟!

ليس من المستغرب أن يثور الكاتب الشهير توفيق الحكيم دفاعاً عن عقيدة الإسلام ورسوله، فور صدمته في إمام التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر: فرانسوا ماري أرويه الشهير بفولتير 1694 - Voltaire)  1778)؛ عندما قرأ له مسرحية محمد أو التعصب Mahomet)/ Fanatisme)  التي كتبها عام 1736، وتم عرضها أولاً في مدينة ليل (25 أبريل 1741)، ثم في باريس لمدة 3 أيام فقط، فقامت بمنع عرضها الكنيسة، بعد اعتراض سفير الدولة العثمانية وقتها، فالمسرحية تحُط أحطَّ الصفات على النبي محمد (عليه الصلاة والسلام)، وإن كان دافع فولتير ليس كراهيته، أو جهله الفادح بالإسلام ورسوله فقط، بل هي رسالة مراوغة أيضاً - كعهد أسلوب فولتير وطبيعة شخصيته - لنقد الكنيسة الكاثوليكية وكُهانها، وهو ما تؤكده رسالة فولتير الواضحة التي كتبها في سبتمبر 1874، ولم تنشر إلا في عام 1856 إلى (سيزار دي ميسي)، يشير فيها إلى أنه قصد ضمنياً الراهب (جاك كليمان/ Jacques Clément الذي قتل هنري الثالث)، لكن فولتير عاد وتَرجّي البابا بندكت الرابع عشر في (17 أغسطس 1745) بكلمات ذليلة، وانتهازية مُهينة، واصفاً دين الإسلام بالبربرية، وبكذب رسوله، لاستمالة مشاعر البابا، فيسمح له بإعادة عرض المسرحية:
(فلتستغفر قداستك لعبد خاضع من أشد الناس إعجاباً بالفضيلة، إذا تجرأ فقدم إلى رئيس الديانة الحقيقية ما كتبه ضد مؤسس ديانة كاذبة بربرية... فلمن أستطيع أن أسجل بمزيد من اللياقة نقدي الساخر على قسوة نبي كاذب وأغلاطه، بدلاً من القس وكيل إله الحق والرحمة؟ فلتأذن لي قداستك أن أضع عند قدميك الكتاب ومؤلفه، وأن أجرؤ على سؤالك الحماية والبركة. وإني مع الإجلال العميق أجثو وأقبل قدميك القديستين).
وبالفعل سمح له البابا بإعادة عرض المسرحية عام 1751م، وحققت نجاحاً كبيراً.
لذلك هبَّ رائدنا المسرحي توفيق الحكيم غاضباً، فكتب عام (1926) سيرة النبي في سردية حوارية، مستعرضاً تاريخ النبوة المُحمدية، وهي أول مرة يكتب فيها تاريخ السيرة النبوية في هذا القالب الحواري الشبيه بالكتابة المسرحية. ولم يكتفِ الحكيم بذلك، بل انتهز مناسبة بدء العام الهجري، ليشُن هجوماً مباشراً على فولتير، في مقال كتبه يوم الإثنين (12محرم 1354هـ/ أبريل 1935م) بمجلة الرسالة (أهم المجلات الثقافية وقتها)، ومما قاله فيه:
(منذ ذلك الحين وفولتير عندي مُتهم، ولن أبرئه أبداً، ولن أعده أبداً من بين أولئك العظام الذين عاشوا بالفكر وحده وللفكر. وأحسب أن التاريخ العادل سوف يحكم عليه هذا الحكم، فينتقم للحق بما افتراه على نبي كريم ظلماً وزوراً. على أن الذي يدعو إلى الدهش أكثر من كل هذا أن الشرق والإسلام وقفا من الأمر موقف النائم الذي لا يعي ولا يشعر بما يحدث حوله، فلم أرَ كاتباً من كتاب الإسلام قام في ذلك الوقت يدفع عن دينه هذا الهراء الذي قاله فولتير، ويقذف في وجه هذا الكاتب بالحقائق الباهرة القاطعة، أو أن مؤلفاً وضع كتاباً يبرز فيه شخصية النبي الخيّرة العظيمة واضحة جلية).
حقائق غائبة
ومع ترحيبنا بحمية قلم كاتبنا المخضرم ضد من اعتدى على الإسلام ونبيه الكريم، إلا أننا نتعجب في نفس الوقت من مَقَاله المذكور، الذي أعاده بعدها في كتابه (تحت شمس الفكر- 1938) مواصلاً غضبه ضد فولتير ومسرحيته الساقطة. ومبعث العجب والتساؤل هو: كيف لم ينتبه الحكيم المعروف بثقافته الفرنسية، وولعه الدؤوب بها طوال حياته المديدة (1898-1987) إلى تغير رأي فولتير في فترة لاحقة، وتطور أفكاره نحو الدفاع الصريح والإشادة بالإسلام وشرائعه، بعدما انقلب عن أغلب آرائه في مسرحيته السالفة؟!
فالمعلوم أن الحكيم نفسه قد رجع في رحلته الفكرية عن الكثير من آرائه، بآخر سنوات حياته، كما بَيّن في كتابه (في الوقت الضائع 1987)، فمثلاً، يفاجئنا (في صفحة 30) بتراجعه التام عن رأيه السلبي في الموسيقى العربية، واتهامه السابق لها بالتطريب الممل، ورتابة الإيقاع، بعكس افتتانه بالموسيقى الغربية، ليعود على النقيض، فيكتب أن التَطْريب أجمل عنصر تتفرد به الموسيقى الشرقية أو العربية، ولم يعد هو يستمتع منها إلا بما يبث في الوجدان روح الطرب الشرقي، بل رفض تشويه موسيقانا، باقتباسها إبداعات موسيقى الغرب، إلا للضرورة فقط.
الخلاصة أنه كما صحح الحكيم الكثير من أفكاره، فبالمثل كان الحال مع فولتير في عدة قضايا، ومنها نظرته للإسلام في مرحلته الفكرية الأخيرة، بعدما اكتسب معرفة أكثر دقة مما كان، حيث أعاد قراءته للقرآن بترجمة إنجليزية، ثم اطّلاعه على كتاب المؤرخ/ هنري دو بولانفييه (تاريخ العرب وحياة محمد-Histoire des Arabes avec la Vie de -Mahomet -1731)، حيث رأى المؤرخ في النبي رجلاً مستنيراً ومُشرعاً حكيماً. فتحول بعدها فكر فولتير نحو اتجاه مغاير، وإن ظلت بعض أفكاره تنطلق من مصادر مشوهة مضللة، في مناخ أوروبي قمعي، وذهنية كنسية متعصبة دينياً. ففولتير يظن أن النبي محمد هو من كتب القرآن في براعة شعرية، وأنه ليس وحياً إلهياً، كذلك تصديقه لحكاية خرافية، في مقاله (الحس السليم) بالقاموس الفلسفي، عن اختفاء نصف القمر في كُم النبي، وقت معجزة انشقاق القمر، وأن العربي مُجبر إيمانياً -وقتها- على الاعتراف أنه شاهد رأي العين كُم النبي، وفي داخله نصف القمر! ولا ندري من أين جاء فولتير بهذه الفرّية المضحكة، دون التثبت العلمي من صحة مصادره، بما يليق بمفكر في مكانته، ومع ذلك فما يهمنا من أمره ليس الخوض تفصيلياً في عقيدته -وإن كان مؤمناً بالله، ويمقت غباء الملحدين- بقدر ما يهمنا إبراز رأيه في الإسلام كعقيدة عقلانية، ورسالة أخلاقية/اجتماعية شهد هو تطبيق منهجها، وانعكاس مبادئها على دول وعرقيات أخرى حكمها المسلمون، ويكفينا نقل بعض مقتطفاته التي تكررت في بعض كتب الباحثين من العرب والأوروبيين على سواء، مع مراجعتنا لأغلب المصادر الأصلية بالفرنسية.
فولتير  يمجد الإسلام
في كتابه (القاموس الفلسفي - Dictionnair philosophique) عام 1764، يواجه فولتير بسخرية جارحة رجال الكنيسة في عصره، ثم يُشهر لسانَ قلمه، مدافعاً عن دين محمد:
(أيها الجهلة الحمقى الذين أقنعهم جهلة آخرون أن الدين المحمدي شهواني، إن هذا ليس صحيحاً، لقد خدعوكم في هذه المسألة كما في مسائل متعددة أخرى، أيها القساوسة والأحبار لو فُرض عليكم أن تمتنعوا عن الطعام والشراب من الرابعة صباحاً إلى العاشرة مساء في شهر يوليو عندنا فيصادف الصيام (le carême) هذا الشهر، ولو منع عنكم القمار jeux de hasard) ) بكل أنواعه، ولو حُرّمت عليكم الخمر، ولو كُتب عليكم الحج في الصحراء المحرقة، ولو أُمرتم بإخراج اثنين ونصف من دخلكم للفقراء، ولو اقتصرتم على أربع زوجات أنتم الذين ألفتم التمتع بثمانية عشرة امرأة- هل يمكن -بكل صدق- أن تقولوا عن هذا الدين إنه شهواني؟)
ثم يستفيض في إشادته بعقيدة الإسلام في كتابه
(بحث في الأعراف وروح الأمم...)
Essai sur les moeurs et lesprit des nations..
الذي نشره عام 1756، ثم أعاد نشره عام 1769.
كل هذه الشرائع الحازمة وهذه العقيدة البسيطة جلبت للإسلام الاحترام والثقة، وبخاصة عقيدة التوحيد التي ليس فيها طلاسم qu،elle n،a point de mystère، بل هي مناسبة للعقل الإنساني، كل هذا جعل عدداً كبيراً من الأمم تعتنق هذا الدين، من سُود أفريقيا إلى جزر المحيط الهندي.
فهل سكت رائد التنوير والليبرالية الأوروبية بعدها؟ لا، بل زاد في الاعتراف بعبقرية العرب، وأعطاهم مكانة فوق عبقرية الرومان، ذاكراً:
(وبينما كنا في قرون الهمجية والجهل، بعد اضمحلال وتمزق الإمبراطورية الرومانية، تلقينا كل علوم العرب من الفلك والكيمياء والطب... ومنذ القرن الثاني الهجري، كان ضرورياً للمسيحيين الغربيين أن يتعلموا بين المسلمين).
ولم يكتفِ فولتير بهذا في أواخر سنواته، كأنما أراد أن يُطهر ضميره من تزويره الفج السابق، فكتب في موضع آخر، بنفس الكتاب عن البلاد (الفضاءات) التي فتحها المسلمون:
(إن الفضاءات التي فُتحت -يقصد الفتح الإسلامي- مُلئت تسامحاً، وحتى القرن الثامن عشر كان التسامح السائد في الفضاء الإسلامي (العثماني) ضماناً للسلم بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية، وكان المسيحيون فيه يعيّنون السلطة الكهنوتية دون تدخّل).
حوار جوته مع نابليون
ولا يفوتنا قبل أن نختم مُجمل عبارات فولتير باختصار، أن نذكر ما سطره من قريحة عقله في جملته الموجزة عن (دين محمد - la religion de Mahomet)، واصفاً إياه:
(إنه أعظم تغير في الفكر البشري).
ونعود لمتن مقال أديبنا المصري، فنجده مصدوماً أيضاً من استحسان المفكر/ جان جاك روسو لمسرحية فولتير المهينة للنبي، وهو ما يجرنا في المقابل لواقعة غفل عنها قلم الحكيم (رحمه الله)، حيث ترجم الشاعر الألماني جوته المسرحية المذكورة، ليجامل أمير (فايمار)، ثم بعد الاحتلال الفرنسي لألمانيا، حدث لقاء تاريخي بين أكبر عقلية أدبية وهو جوته، مع أكبر عقلية عسكرية نابليون بونابرت، في (2 أكتوبر 1808) بالقصر الحكومي لمدينة إيرفورت الألمانية، بعد مرور نحو سبعين سنة على ظهور مسرحية فولتير (التعصب- محمد)، وعندما عرف نابليون أن جوته قد ترجمها، دار بينهما هذا الحوار:
- نابليون: أنا لم أحب هذه المسرحية، إنها رسم مُشوه (كاريكاتير)!
- جوته: أنا مع رأي جلالتك، ولقد ترجمتها رغماً عن مشاعري، لكن في طيات هذه التراجيديا، وتلك العبارات المطولة ضد التعصب، لم يكن الإسلام هو المقصود، بل الكنيسة الكاثوليكية.
- نابليون (موافقاً): التلميحات كانت محجوبة تماماً للدرجة التي تمكن بها هذا الوقح (يقصد فولتير) من إهداء عمله إلى البابا الذي أعطاه بركته.

ذو صلة